رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


أقنعة تنفس للكبار فقط

نستمع في كل رحلة جوية إلى تعليمات السلامة التي تذكرنا بأن يلبس الشخص البالغ قناع الأوكسجين قبل الطفل وذلك تمكينا لنفسه من مساعدة طفله، وهذا منطقي جدا. ولكن في حالات كثيرة أخرى كالحرائق مثلا، ومن منطق السلامة أيضا، يتم تقديم الصغار على الكبار وليس العكس ـــ كفانا الله ومن تحبون كل شر.
يذكر خبر "واس" الذي أعلن إتمام توحيد شركات الكهرباء في مناطق المملكة يوم السابع من صفر 1402هـ على لسان وزيرها الدكتور غازي القصيبي ـــ رحمه الله ـــ بأن هذا التطور ضرورة حتمية لمواكبة التوسع السريع وسيطرة ضرورية على مرفق حساس وحيوي، ولا يمكن ترك هذا القطاع المهم للمجهود الفردي. لا يخفى على أحد أن هذا الإنجاز المهم له قيمة تاريخية خاصة في مسيرة التنمية السعودية وبه تحقق الكثير من المكتسبات التي تتجاوز مجرد تنظيم الخدمة وتقييسها ونشرها. كان القرار يختص تحديدا بتوحيد كيانات هشة كثيرة في كيانات قوية ومحدودة، وهذا مجرد نموذج من نماذج إعادة التنظيم التي تأخذ أشكالا أخرى، فكما يتم توحيد المتفكك يتم أيضا تفكيك الكيانات الضخمة إما تجديدا لروح التنافس ورفعا من كفاءة الخدمات أو لإدخال نماذج وأساليب تقدم العمل بطرق فعالة وجديدة. على مدى السنوات الفائتة، رأينا النجاح والفشل في قطاعات الطيران والاتصالات والتعليم والتجزئة، ولا يزال الاندفاع مستمرا والتغييرات أكيدة في أكثر من قطاع ومجال.
السؤال الذي يطرح نفسه، أيهما أفضل: تقوية السوبر ماركت الضخم الشامل أم تعزيز دور البقالات والمحال الصغيرة داخل الأحياء؟ تحسين مستوى متاجر خدمات أجهزة الجوال الصغيرة أم تشجيع الشركات الكبرى على دخول السوق ومنافسة صغاره بلا هوادة؟ التعامل مع عدد محدود من الإمبراطوريات التعليمية أم إنشاء شبكات من المدارس منخفضة التكاليف ذات القيمة التعليمية العالية؟ السيطرة على سوق الدواء بعدد محدود من الشركات ذات المنافذ المسيطرة أم تعزيز نموذج العمل الصيدلي الفردي الذي يخدم الحي وأهل الحي أولا؟!
يحدث لدينا أن يتم إخراج الصغار من السوق دون تحضير ولا حماية، على الرغم من أن التوجهات العالمية ثابتة ومعلنة فيما يخص تقوية صغار المستثمرين فهذا أقرب للعدالة وأنسب لتدعيم الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل. وعلى الجانب الآخر، يتم تمكين الكبار باعتبار أن التفاهم معهم أسهل وتطبيقهم للمعايير أفضل ودعمهم للسوق أقوى، ولكن تصل قوتهم في معظم الحالات إلى مرحلة لا يمكن السيطرة عليها.
ندعي دعم بيئة ريادة الأعمال ونؤمن بأن صنع الوظائف وتحسين إنتاجية المجتمع قائم على مشاريع الشباب وشجاعة ترك الوظائف التقليدية لمصلحة المشاريع الصغيرة، ثم ندعم الشباب بالتشجيع وبالتمويل ربما. وبعد أن يفتح مشروعه ويجسد أحلامه ـــ وربما نحتفل به كقصة نجاح مبكرة - نأتي ونخرج كل المشاريع الصغيرة من السوق لمصلحة شركة ضخمة تسيطر لاحقا على الجهات التي تتعامل معها وتسير القطاع بكامله حسب ظروفها ومصالحها بحجة محاربة العشوائية!
من الطبيعي أن نقول إن بعض القطاعات تحتاج إلى تفكيك وبعضها يحتاج إلى القيام بالعكس، أي إلى التقوية والتوحيد. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نسقط نموذجا ثابتا وأسلوبا واحدا فقط على جميع المجالات والفئات المنتجة التي تصل بإنتاجها إلى المواطن في نهاية الأمر، سواء كانت جهات حكومية أو خاصة. الظروف الاقتصادية والتنظيمية والإشرافية تعمل بطريقة أفضل عندما تكون أشكال الكيانات متناسقة معها ومع إمكاناتها وأهدافها التي أنشئت من أجلها.
سأذكر ثلاثة جوانب مهمة تستوجب التنبه حين نقوم بالتغييرات الهيكلية لأي قطاع نتعامل معه. أولا، أن يخدم التغيير ـــ سواء كان تفكيكا أو توحيدا ـــ المواطن والمستفيد النهائي ولا يتم على سبيل المثال تنفيذه فقط لتسهيل عمل الجهة المشرفة على القطاع. ثانيا، أن يقوي كل تغيير صغار المستثمرين، حتى لو كان يبحث في النهاية عن صنع لاعبين كبار ومؤثرين لخصوصية القطاع؛ تعزيز وجود الصغار في مختلف أجزاء سلسلة الإمداد يقوي الكبار والصغار معا - يمكن النظر إلى تجربة المتاجر البريطانية الكبرى في دعم صغار الأعمال. ثالثا، أن تكون الحلول إيجابية بالتمكين ومعالجة مشكلات القطاع ورواده بالتفاهم الصريح، وليس بالتخارج من الوضع الحالي بغموض وممارسة الضغط على الموجودين للخروج تحقيقا للإنجازات السريعة والمؤقتة، فهذا يدمر الثقة ويقلل من قيمة المعرفة المكتسبة ويرفع التكلفة التي يواجهها المستهلك في نهاية الأمر.
لا تنص قواعد السلامة بطريقة ثابتة وموحدة على أن الكبار أولا أو الصغار أولا، وإنما يتم التعامل مع الأمر حسب طبيعته واحتياجاته. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخصص أقنعة الأوكسجين للكبار فقط ويتم تجاهل الصغار بالكامل، هنا سيصبح الأمر جريمة لا يرضى بها عاقل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي