بيع بالجملة .. وشراء بالمفرق!
عمّان الأردن تحتل المرتبة الأولى بين العواصم العربية من حيث غلاء تكاليف المعيشة بالنسبة للمواطن الأردني, وهذا حسب تقرير صادر عن وحدة الاستقصاء الاقتصادي EIU التابعة لمجلة "الإيكونومست", تحت عنوان "استطلاع تكاليف المعيشة على مستوى العالم". والسر في هذا الغلاء الكبير واللافت أمور, من أبرزها: إن الأردن بلد يعتمد على الاستيراد, لا على الإنتاج, كما صرح به غير واحد من خبراء الاقتصاد, ولهذا نرى دمشق سورية – المجاورة للأردن – من أقل العواصم العربية تكلفة من حيث المعيشة, ورخص الأسعار؛ ولاسيما بالنسبة للسياح, وذلك لأنها من أبرز الدول العربية المنتجة, والمصنعة محلياً, سواء من الملابس القطنية, أو المواد الغذائية, أو غيرها, لدرجة أن الدولة السورية إلى عهد قريب كانت تلاحق كل من يبيع المنتجات المستوردة المحظورة, وتعاقب مَن تقبض عليه متلبساً بجريمته, سواء كان متورطاً في بيع سلع كهربائية, أو غذائية, أو..إلخ! حتى إن بعض الأجبان المستوردة (كجبن البقرة الضاحكة) كانت تباع في بعض المحال الغذائية سراً, وعلى سبيل الخفية, وكأنها نوع من أنواع المخدرات المحظورة! وهكذا الحال بالنسبة للمواد الكهربائية, وغيرها..., فقد كانت لا تستورد إلا بأسلوب التهريب, ولا تباع إلا سراً, حسبما حدثني بذلك بعض أبناء تلك البلاد, وساعد هذا الواقع المتشدد من الحكومة السورية – على ما فيه - على حمل الناس على إنتاج الكثير من المصنوعات المحلية, والعمل بكد أيديهم, وما تنتجه عقولهم, إلى درجة الإبداع أحياناً, مما أسهم في تخفيض الأسعار, وتقليل تأثير التضخم العالمي في أسعار السلع المنتجة محلياً, والتي لا تحتاج إلى مواد أولية تستورد من الخارج, بل أسهمت الصناعة المحلية أيضاً في تقليل الضرر من الحصار المفروض على سورية منذ مدة طويلة, وهذا لا يعني أن سورية سالمة من داء التضخم, كلا, فهي تعاني الأمرين بسبب بعض مواقفها السياسية, وسياساتها الاقتصادية, وبسبب الكثير من حوادث الاحتكار, والاختلاس, والتلاعب بالمال العام, ناهيك عن الحصار..., مما أسهم في إضعاف القوة الشرائية لليرة السورية.., إلا أن ما أردت الإشارة إليه هنا هو الجانب الإيجابي لإنتاجها المحلي, والذي انعكس إيجاباً على همة الشعب نحو التصنيع, وعلى خفض الأسعار مقارنة ببعض دول الجوار. ومن هنا ندرك جيداً أهمية الإنتاج المحلي, وكونه من أبرز العوامل المهمة في خفض الأسعار في الأجلين المتوسط والطويل, ولاسيما إذا صاحب ذلك استقرار سياسي, ونهوض اقتصادي. وطالما طالب الكثير من العلماء والعقلاء بأهمية العمل على إحلال المصنوعات المحلية في البلاد محل مستورداتها من البلدان الصناعية؛ والعمل على زيادة الطاقة الإنتاجية وتحسينها في البلاد الإسلامية؛ وذلك من أجل القضاء على أسباب الغلاء, والتي من أهمها: تأثر الدولة المستوردة بالواقع الاقتصادي للدول المصدرة, سواء فيما يتعلق بالمنتج, أو بمواده الأولية. ولهذا نلحظ أن تقرير وزارة التجارة والصناعة الصادر منها قبل مدة حول بعض السلع, صرح بأن سبب غلاء كثير من السلع في السعودية هو ارتفاع أسعارها في بلد المنشأ, أو ارتفاع أسعار موادها الأولية, مما انعكس سلباً على أسعار السلع المستوردة - كأسعار الأرز مثلاً- أو على السلع المركبة منها, كمواد المفروشات والأثاث. ومن هنا, فإنه يتأكد على المسؤولين في الدولة, وضع الخطط, واتخاذ الإجراءات التي تشجع على الإنتاج المحلي, والتصنيع الداخلي, ولاسيما أن الدولة السعودية من أكبر الدول المصدرة للنفط, واعتمادها على نفسها في مجال التصنيع يوفر عليها الكثير من المبالغ الباهظة, وأما اعتمادها على كثير من السلع المستوردة, فإنه يجعلها تبيع النفط بالجملة, وتشتريه بالمفرق! وشجع ديننا الإسلامي الحنيف على العمل باليد, الذي هو وسيلة الإنتاج المحلي, كما في الحديث الذي رواه المقدام ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده, وإن نبي الله داود - عليه السلام - كان يأكل من عمل يده) أخرجه البخاري في صحيحه. وفي هذا الحديث الشريف تشجيع للأيدي العاملة, ودعم للتصنيع المحلي بأشكاله كافة, والذي يسهم بإذن الله تعالى في الدفع بالدولة واقتصادها إلى مصاف الدول المتقدمة. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن نختزل معالجة ارتفاع أسعار السلع في تنمية الإنتاج المحلي, ولكنه أحد الأسباب الفاعلة, ولا شك, والله تعالى أعلم.