رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


كيف شوه مبادرو الأعمال الأمريكيون الرأسمالية الحقيقية؟

ناقشت في مقال الأسبوع الماضي الفرق بين الرأسمالية الحقيقية والرأسمالية الإدارية بسبب الاختلاف الشاسع بين النظرية والتطبيق؟ وفي هذا المقال نريد أن نستكمل النقاش لنعرف كيف حدث هذا الانحراف؟ ومتى؟ ولماذا؟ حتى نصل إلى بغيتنا ينبغي علينا العودة إلى الوراء لنطلع على حلم تحقيق الثروة الذي كان يراود الناس في أوروبا بعد اكتشاف أمريكا عن طريق الهجرة إلى العالم الجديد للاستفادة من الرأسمالية المزعومة هناك من أجل التخلص من أغلال العبودية والطبقية والفاقة التي كانوا يعانونها في أوروبا.
فقد أرهقت البشرية في أوروبا الطبقية والفاقة فقرروا الرحيل إلى العالم الجديد للتخلص من كل هذا وتكوين الثروة. يقول "ألكسيس دور تكوفيل": "في أوروبا وآسيا كان الشخص الذي يولد في طبقة الفلاحين لن يتمكن أبدا من أن يكون من الطبقة الملكية مهما عمل من جهد".
وعند اكتشاف الأمريكتين بدأت السفن تتدفق على الموانئ الأوروبية وكانت الموانئ تحتاج إلى عتالين وحمالين وحدادين ونجارين وتقديم الخدمات الوسيطة إلى السفن القادمة من العالم الجديد فتحولت الموانئ الأوروبية إلى مدن وتحول الفلاح الذي كان يعمل لدى النبيل بما يأكله من فلاح إلى عامل له أجر ثم تحول بعد ذلك إلى تاجر بعد أن كان عاملا مقهورا في الأرض. وفي ظل هذه التحولات نشأت طبقة جديدة يطلق عليها الطبقة البرجوازية وهي الطبقة الوسطى التي تفصل بين شريحة الملاك والنبلاء من جهة وطبقة الفلاحين من جهة أخرى. ويمثل هذه الطبقة أبناء التجار والعمال في المدن الذين كان آباؤهم بالأمس فلاحين (أقنان الأرض) في عصر الإقطاعيات. وهنا بدأ عصر جديد ونظرة اقتصادية مختلفة لم يكن مخططا لها في الأصل.
ثم هاجر الناس إلى الأرض الجديدة -أمريكا- من أجل تحقيق الحلم العظيم في بناء ثروات ويصعدون في سلم الطبقات الاجتماعية، ويتنفسون الحرية، ويصبح لهم ملكية، ويقيمون مشاريع، وينافسون الأقوياء، فهل تحقق لهم ما أرادوا؟ لنر ما حدث.
لقد كان الحظ العاثر لهم بالمرصاد فلم تتغير الطبقية التي كانت حاضرة في أوروبا، بل زادت المستويات في سلم الطبقية بعد أن كانتا طبقتين إلى ثلاث طبقات في أوروبا أصبحت سبع طبقات في أمريكا.
فقد صنف علماء الاجتماع المجتمع الأمريكي القديم والمهاجرين الجدد إلى سبع طبقات اجتماعية. تقع في قمة الهرم فئة الأفراد الذين يعيشون على ثروة ورثوها ولهم خلفيات عائلية مرتفعة البناء، وهم يمثلون نحو 1 في المائة من المجتمع الأمريكي وهؤلاء هم الرأسماليون الحقيقيون الذين تعلموا أسرار تكوين الثروات من النظرية الرأسمالية. يأتي في المرتبة الثانية الأفراد الذين يكسبون دخولهم من مقدرات استثنائية في مهنهم وأعمالهم، ويمثلون نحو 2 في المائة وهم الرأسماليون الإداريون وهؤلاء ليسوا مبادري أعمال بل موظفون رغم دخولهم العالية. وأتى في المرتبة الثالثة طبقة المهنيين، وأصحاب أعمال مستقلون، ومديرو بعض الشركات، بعدها أتت الطبقة "المتوسطة" وهم أصحاب الياقات البيضاء والزرقاء متوسطو الدخل، تليها الطبقة "العاملة" وتمثل أعلى نسبة (38 في المائة) من المجتمع الأمريكي وهاتان الطبقتان هما اللتان تدفعان أعلى نسبة ضرائب حيث كانوا أشبه ما يكونون بـ (أقنان الأرض) في عصر الإقطاع. بعد ذلك أتت طبقة الأفراد الذين يكون نمط حياتهم أعلى من الفقر قليلا ويعيشون على الكفاف. أما الطبقة التي تقع في قاع هرم الطبقات الاجتماعية الأمريكي فيطلق عليها "أقل الأقل" وهم المتضح فقرهم ومنهم العاطلون والمشردون, بعضهم يعيش في العراء يتخذون من ظلال الجسور منازل تقيهم الشمس ومن النفايات مصادر غذائهم اليومي وتراهم صاغرين لا يعرفون من الحياة إلا الفقر والبؤس والفاقة.
هذه هي الطبقية في الولايات المتحدة القوة العظمى في العالم صاحبة الديمقراطية وحقوق الإنسان وزعيمة الرأسمالية. ومن هنا نستشف أن غالبية البشر الذين هاجر أجدادهم إلى العالم الجديد بقوا في مستوى غير إنساني ولم يحققوا أحلامهم في تقليص سلم الطبقات الاجتماعية. ونحن لا نفترض أن يكون الناس سواسية فالطبقية والاختلافات بين الناس ظاهرة طبيعية في كل المجتمعات ولكنها تتكون تلقائيا وليس طبقية موجهة كما هو الحال في أمريكا.
أما من ناحية الحلم بالثروة فلم يحقق الإنسان في ظل الرأسمالية الحالية قدرا كبيرا من المال. فقد ضلت الرأسمالية الحقيقية المطبقة في أمريكا الطريق وأصبح الوضع أقرب ما يكون إلى الاشتراكية منها إلى الرأسمالية حيث امتلك الرأسماليون القدامى 80 في المائة من ثروة أمريكا ولم يعد هناك مكان للقادمين الجدد. يقول روبرت كيوساكي مؤلف كتاب "الأب الغني والأب الفقير" عام 2015، "أنشأت أمريكا ما يطلق عليهم مبادرو الأعمال أمثال "هنري فورد"، وتوماس أديسون"، و"والت ديزني"، و"ستيف جوبر"، و"مارك زوكربيرج". فبعد أن استفاد هؤلاء من الرأسمالية الحقيقية وعرفوا أسرار المال وتعلموا طريقة تكوين الثروات قاموا بتوجيه بوصلة التعليم من الاهتمام بتعليم المال إلى الاهتمام بعلوم لا تمت للواقع بصلة وبدل أن يتعلم الناس كيف يكونون أثرياء تعلموا كيف يكونون موظفين عند مبادري الأعمال الأمريكيين، وبذلك عادت العبودية في شكل جديد ومسمى جديد. فأصبح يطلق على الإنسان "موظف" فتحولت الرأسمالية الحقيقية إلى رأسمالية إدارية.
لقد شوه أصحاب الأعمال الجدد الرأسمالية حتى أدرك الناس أن حياة آبائهم في أوروبا العجوز أكرم من حياتهم في أمريكا الفتية التي أصبح البعض يطلق عليها أرض الفقراء، والمعوزين، والعاطلين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي