الرأسمالية الحقيقية والرأسمالية الإدارية
تطرقت في مقال الأسبوع الماضي إلى الانتخابات الأمريكية الـ 58 والذي سيفوز بها سيكون الرئيس الـ 45 للولايات المتحدة. وقد قدمت وجهة نظري حيال من سيكون الأجدر برئاسة أمريكا وفقا للظروف الحالية وسمات كل شخصية وبينت أن ترامب هو الأجدر من بين المرشحين الحاليين لتولي منصب رئيس الولايات المتحدة لسببين جوهريين. الأول أن الوضع الحالي يحتاج إلى حزم وقوة فقد تأثر كثير من الدول والاقتصاديات بضعف أمريكا والذي لم يصبح خافيا على أحد، وقد فصلت في هذا في مقال الأسبوع الماضي.
والسبب الثاني هو أن الدول بشكل عام ـــ وليست الولايات المتحدة فقط ــــ تحتاج إلى قادة لا يحملون الفكر السياسي فحسب، بل فكرا رأسماليا حقيقيا. بمعنى رجال يعرفون كيف يقودون الدول بعقلية المال الذي يعد قوة لا تقل عن القوة العسكرية والقوة السياسية. ترامب يحمل الفكر الرأسمالي الحقيقي، ولديه مهارات في تحويل السالب إلى موجب، والخروج من الأزمات ببراعة.
ولكي أوضح وجهة نظري ينبغي التعمق قليلا في فهم الرأسمالية بشقيها الحقيقية والإدارية، وكيف أفرزت هذه الأخيرة مصطلحات لم تكن موجودة مثل البيروقراطية؟ تعرف الرأسمالية بشكل عام على أنها نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية تقوم على أساس تنمية الملكية الفردية وتقليص الملكية العامة حيث يقتصر دور الحكومة في الرقابة دون التدخل في العمل التشغيلي. يرى آخرون أن الرأسمالية هي نظام اقتصادي يمتلك فيه الأفراد والشركات وسائل الإنتاج والتسويق ويتم استثمار الأموال بمبادرة شخصية دون توجيه الدولة أو سيطرتها. ومن خصائص الرأسمالية المطلقة إنتاج السلع من أجل الربح وتحديد أسعارها على مبدأ المنافسة الحرة. وقد كانت إنجلترا حتى سنة 1875 من أكبر الدول التي تطبق الرأسمالية، ولكن ظهر كل من الولايات المتحدة وألمانيا في الربع الأخير من القرن الـ 19. وبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت اليابان. وظلت الرأسمالية مسيطرة على الحياة الاقتصادية حتى ولادة الاتحاد السوفياتي عام 1917 عندها عرف العالم آنذاك نظامين اقتصاديين متناقضين فكريا ومتصارعين سياسيا حتى انهارت الاشتراكية في القرن الماضي وسيطرت الرأسمالية بعد ذلك ثم انحرفت عن مبادئها كما سنرى.
فقد بين الاقتصادي البريطاني جون كينياس أن الاقتصاد الرأسمالي غير قادر على حل مشكلاته بنفسه كما هو مبين في النظرية. فهناك أوقات كساد تحتم على الحكومة التدخل لتحفز الاقتصاد. وهذا النداء من قبل كينياس قرَّب المسافة كثيرا بين الرأسمالية والاشتراكية ولم يعد هناك تضاد بينهما خصوصا في التطبيق فالرأسمالية المطبقة التي نراها هذه الأيام أقرب ما تكون إلى الاشتراكية.
فعلى سبيل المثال باشرت الدولة تدخلها بشكل أكبر في إنجلترا، وفي الولايات المتحدة زاد تدخل الدولة ابتداء من سنة 1933، وفي ألمانيا بدءا من العهد النازي. وتمثل تدخل الدولة في البداية في الخدمات الأساسية كالمواصلات والتعليم. بعد ذلك تدخلت في الخدمات الاجتماعية مثل رعاية حقوق المواطنين، وسن القوانين ذات الصبغة الاجتماعية، كالضمان الاجتماعي، والشيخوخة، والبطالة، والعجز والرعاية الصحية، وتحسين الخدمات، ورفع مستوى المعيشة.
وترى هذه الاقتصاديات أن تدخل الدولة ليس تمردا على الرأسمالية بل تدخل إصلاحي جزئي اضطرت له للنهوض ببعض الخدمات الأساسية وبسبب ظهور العمال كقوة انتخابية في البلدان الديمقراطية، وبسبب لجان حقوق الإِنسان، ولوقف المد الشيوعي الذي يتظاهر بنصرة العمال ويدعي الدفاع عن حقوقهم ومكتسباتهم. ويرى آخرون أن هذا التدخل نتيجة المآخذ على الرأسمالية والآثار التي ظهرت نتيجة التطبيق غير العادل والذي أدى إلى تكديس الثروة بواسطة الثروة نفسها وليس بواسطة العمل، وعدم معرفة لمن تعود ملكية الثروة المنتجة، والتصرفات المريبة لمالكي الثروة، وانهزامية الحكومات والسياسات أمام الكيانات الاقتصادية الرأسمالية الضخمة حتى وصل الأمر إلى التأثير في القرار السياسي والتحكم فيه ما أدى إلى انحياز الساسة إلى طبقه بعينها حتى أصبح الاهتمام منصبا عليها على حساب الخدمات العامة.
ورغم منطقية هذه المآخذ ومعقولية تلك التدخلات إلا أن هذا يعد جنوحا عن الفكر الرأسمالي وكفرا به حتى أن الولايات المتحدة رافعة لواء الرأسمالية المطلقة أصبحت تقترب كل عام من الاشتراكية التي كانت تحاربها خلال الحرب البادرة حتى أسقطتها. أما دول أوروبا الغربية فمن الصعب أن نطلق عليها الآن دولا رأسمالية فالخدمات الأساسية تقدم وتدار من قبل الدولة.
ونتيجة لهذا التدخل السافر من قبل الحكومات لتوجيه حركة الاقتصاد ظهر ما يسمى بالرأسمالية الإدارية والتي أفرزت مصطلحات إدارية عكست ذلك التطبيق مثل البيروقراطية. ولكن ما المقصود بالرأسمالية الإدارية وكيف تختلف عن الرأسمالية الحقيقية؟ ولتوضيح ذلك دعونا نستعين بمقولة جون بوجل وهو مبادر أعمال رأسمالي حقيقي ومؤسس شركة فانجارد فندس أكبر شركات الاستثمار المشترك في العالم وأكبر عدو للرأسماليين الإداريين.
يقول بوجل "إن كثيرا من أكبر الشركات لدينا يديرها رأسماليون إداريون وليس رأسماليين حقيقيين وهم موظفون وليسوا مبادري أعمال". وأضاف "والرأسماليون الإداريون لا يدشنون مشروعا ولا يملكونه ولا يتحملون المخاطر المالية ورغم ذلك يحصلون على رواتبهم وعلاواتهم سواء كان العمل التجاري مزدهرا أم فاشلا حتى لو خسر الموظفون وظائفهم وخسر حملة الأسهم استثمارهم".
من هنا نستطيع أن نقول إن الرأسماليين الحقيقيين هم مبادرو الأعمال الذين لديهم القدرة على بناء المشاريع وما يتبع ذلك من إنتاج سلع وخدمات ووظائف بينما الرأسماليون الإداريون عبارة عن موظفين يقتصر دورهم في إدارة هذه المشاريع بعد نموها واستقرارها بمرتبات وعلاوات عالية دون أن يتحملوا أدنى مخاطرة.
هذا ما كنت أقصده عندما بينت وجهة نظري حيال جدارة ترامب الرأسمالي الحقيقي برئاسة أمريكا. فترامب ومن هم على شاكلته رأسماليون حقيقيون يولدون من المال مالا ويرون فرصا استثمارية قد لا يراها الآخرون.