التعليم .. وقضية التفكير
يقول ديريك كابريرا الأستاذ في جامعة كورنيل الشهيرة، في محاضرة له عام 2011 حول قضية التفكير، بأن الطلاب المتميزين الذين استطاعوا الوصول إلى الجامعة غير قادرين على التفكير. بل يقول أكثر من ذلك، يقول استمعوا إلى المناظرات الرئاسية في أمريكا واشهدوا على ضعف التفكير. ولعلنا نتذكر هنا أيضا قولا آخر حول التفكير، ذكرناه في مقال سابق، هو "فكر قبل فوات الأوان". وهو عنوان لكتاب وضعه "إدوارد دو بونو" الذي يعتبر أن ضعف التفكير هو أخطر مشكلات العصر، ربما لأن هذا الضعف يسهم في بروز هذه المشكلات، ثم لا يعرف كيف يعمل على حلها.
هل صحيح أننا لا نفكر؟ لعل الإجابة هي "كلا"، بل نفكر، لأن هناك دلائل تقول بأن الإنسان بنى حضارات كثيرة في مختلف بقاع الأرض، وأن في ذلك دليلا قاطعا على أنه يفكر. ولعل الإجابة هي أيضا "نعم" لا نفكر، لأن هناك في المقابل دلائل أخرى تقول بأن الإنسان يواجه مشكلات كثيرة يقف عاجزا عن حلها، وهذا دليل على أنه لا يفكر، أو ربما دليل على ضعف تفكيره أمام هذه المشكلات. والنتيجة هنا هي أن الإنسان يستطيع أن يفكر، لكن تفكيره يعاني مشكلات يجب العمل على استيعابها والسعي إلى حلها.
الاعتقاد السائد بين الباحثين والمهتمين بقضية التفكير، هو أن التفكير قائم في فطرة الإنسان، لكن بيئة الحياة عموما، وبيئة التعليم على وجه الخصوص تعوقان هذه الفطرة وتشجعان الإنسان على تعطيلها. فالطالب في المدرسة عليه أن يحفظ قبل أن يفكر ويستوعب؛ عليه ألا يخطئ أبدا وإلا انحدرت درجاته، على الرغم من أن مبدأ التجربة والخطأ من أهم مبادئ التعلم؛ عليه أن يخشى السؤال كيلا يظهر بمظهر محدودية الفهم أمام الآخرين، على الرغم من أن أسلوب السؤال والجواب من أهم أساليب الشراكة في التفكير والإبداع وإيجاد الأفكار الجديدة.
وهناك أمر آخر متداول بشأن واقع التعليم والتفكير اليوم. وقد عبر عن هذا الأمر "ديريك كابريرا" بالقول إن هذا الواقع يستند إلى مبدأ "توسيع مدى تدفق المعلومات". والمقصود هنا أن التعليم، في شتى المراحل، يسعى إلى إعطاء الطالب قدرا كبيرا متزايدا من المعلومات على أمل أن تنتج عن ذلك قدرة متزايدة على التفكير والإبداع والابتكار. ويعلق "كابريرا" على الأمر بأن هذه القدرة لم تظهر، بل ولن تظهر. ولعل السبب يكمن في أن تزايد كمية المعلومات التي يتلقاها الطالب غالبا ما تعوق تفكيره لمصلحة الحفظ دون فهم، وفي ذلك إهدار للتفكير، ومضيعة للوقت دون فائدة حقيقية ملموسة يكتسبها الطالب، خصوصا عندما لا تكون المعلومات ذات أهمية كبيرة في قضايا الحياة.
يطرح الباحثون آراء وتجارب كثيرة حول قضية التفكير، وحول دور التعليم في تفعيل التفكير، والأثر الحميد لذلك على أرض الواقع. ولعلنا نستعرض بعضا من أهمها من خلال تكوين "منظومة التفكير" التي تحدثنا عنها في أكثر من مقال سابق. فمنظومة التفكير هذه تبدأ "بالمنطلقات" التي تتمثل في "المبادئ والتوجهات والطموحات"؛ ثم تهتم بعد ذلك "برؤية" المشهد الخاص بالموضوع أو المشكلة المطروحة للتفكير؛ وتنتقل بعد ذلك إلى "المعالجة الفكرية" التي تستند إلى المنطلقات والرؤية بل والمواهب أيضا، وتقوم بتحديد ما يجب عمله؛ كل ذلك في إطار "بيئة محيطة" تحفز التفكير، أو تعوقه كما رأينا فيما سبق، أو تقف محايدة بين هذا وذاك.
في إطار المنطلقات نجد "أنجيلا ديكورث"، الأستاذة في جامعة بنسلفانيا، تؤكد أهمية "العزيمة والحماس" Grit في الأداء المعرفي للطالب. كما نجد "كارول دويك"، الأستاذة في جامعة ستانفورد، تهتم "بالحالة الذهنية" Mindset للطالب وتسعى إلى تجنب جعل هذه الحالة "ثابتة" Fixed بمعنى مقيدة التطور والنمو بسبب أساليب التعليم غير المناسبة، وتعمل على تفعيل تحويلها إلى حالة "نامية" Growth تعزز التفكير والنمو من خلال أساليب تعليم جديدة.
وفي إطار المنطلقات أيضا نجد "هوارد جاردنر"، الأستاذ في جامعة هارفارد، يطرح توجهين مهمين. يطلق على أحدهما "العقل الأخلاقي" الذي يحرص على الالتزام بالأخلاق الحميدة؛ ويطلق على الثاني "عقل الاحترام" الذي يؤكد احترام الجميع دون تمييز.
وفي إطار "رؤية المشهد" و"المعالجة الفكرية" يبرز "إدوارد دو بونو" الذي يهتم بالتفكير في الأمور من جوانب مختلفة ومن زوايا متعددة. وقد قدم "دو بونو" أسلوب "القبعات الست" في رؤية المشهد وفي معالجته الفكرية عبر: قبعة المعلومات البيضاء؛ وقبعة الفوائد الصفراء؛ وقبعة المصاعب السوداء؛ وقبعة العاطفة الحمراء؛ وقبعة الإبداع الخضراء؛ وقبعة المعالجة الشاملة الزرقاء.
وفي هذا الإطار أيضا يأتي "ديريك كابريرا" الذي يدعو إلى رؤية مشهد الموضوع المطروح والقيام بمعالجته من خلال أربعة محاور رئيسة. محور "تمييز" Distinction المعطيات والتعرف عليها كحقائق، أو كأفكار، أو كقضايا. ثم محور النظر إلى المشهد "كنظام" System شامل له مكونات، والتعرف على كل مكون من هذه المكونات كنظام مصغر له مكوناته المصغرة في إطار نظام أكبر، وهكذا. ويلي ذلك محور "العلاقات" Relationships والترابط والتكامل بين مختلف مكونات المشهد ومعطياتها. ويأتي أخيرا محور "الإدراك" Perceptive من خلال النظر إلى المشهد من زوايا مختلفة كما هو الحال في أسلوب "القبعات الست".
و"لهاورد جاردنر" إسهام يمكن أن يوضع في إطار "رؤية المشهد" و"المعالجة الفكرية". ويرتبط إسهامه هنا بما طرحه في محاور ثلاثة. محور "العقل المدرب" Disciplinary الذي يتميز بعمق الرؤية ومهارة المعالجة الفكرية في الموضوعات التي تراكمت لديه الخبرات فيها. ثم محور "العقل التجميعي" Synthesizer الذي يستطيع بمهارة كشف العلاقات بين عناصر قائمة ضمن مشهد موضوع مطروح، ما يعطيه عمقا في الفهم والاستيعاب. وأخيرا محور"العقل المبدع" Creative الذي يستطيع تقديم أفكار جديدة أو متجددة فيما يطرح أمامه من موضوعات.
منطلقات التفكير وأساليبه ومهاراته المتجددة والمتطورة حول العالم كثيرة، والتنافس قائم على اكتسابها والعمل على الاستفادة منها. نريد نحن أيضا في مدارسنا وجامعاتنا أن نزيد الاهتمام بها. نريدها في مناهجنا، ليس كمقررات خاصة فقط، بل كممارسة مدمجة في جميع المقررات، ومنفذة في جميع الحصص التعليمية. نريد أجيالا جديدة تفكر وتعمل. فالتفكير دون عمل يفتقر إلى الأثر، والعمل دون تفكير يفتقر إلى الهدف وإلى الحكمة. نريد من الأجيال الجديدة أثرا ونريده هادفا حكيما بمشيئة الله.