رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


ترشيد الإنفاق .. الجامعات أولا .. لماذا؟ وكيف؟

من حيث طبيعة الإنفاق، تعتبر الجامعات من الجهات الحكومية الفريدة. فمن جهة تتولى الحكومة تمويل مقدم الخدمة التعليمية وهي الجامعات وما يتبعها من كادر تعليمي وإداري وفني وغيره، ومن جهة أخرى تنفق الحكومة على المستفيدين من الخدمة وهم الطلبة الدارسون في تلك الجامعات عبر صرف مكافآت شهرية. لذا فالجامعات تعتبر من الجهات الحكومية القليلة التي تتولى الحكومة الإنفاق على طرفي المعادلة مقدم الخدمة والمستفيد منها. هذه الحقيقة تحتم إعطاء الجامعات أولوية في مراجعة آلية اعتماد ميزانياتها. فمن غير المعقول أن تصرف الدولة بصورة مزدوجة على الطالب والجامعة وفي النهاية يكون المخرج ضعيفا أو غير مفيد للعملية التنموية.
شخصيا أؤمن أن مكافآت الطلبة يجب أن تستمر وكذلك الصرف على الجامعات ولكن بصورة تحقق مخرجات تنموية حقيقية. فعلى مستوى المستفيد من الخدمة، الآلية الحالية لاعتماد قيمة مكافآت الطلاب تحتاج إلى مراجعة. فالآلية مبنية على تخصص الطالب علمي وأدبي. فطالب الدراسات العلمية له مكافأة أعلى من طالب الدراسات الأدبية بسبب اختلاف تكاليف الكتب والمتطلبات الدراسية بين التخصصات العلمية والأدبية. لكن حاليا متطلبات التنمية مختلفة ما يتطلب إدخال محدد جديد ومهم وهو أهمية التخصص وانعكاسه على المتطلبات التنموية. لذا يجب أن يتم تحديد المكافأة الطلابية وفقا لمعايير مختلفة ووفقا لانعكاس تخصص الطالب على الاحتياجات التنموية التي من المفترض أن تحدد بالتنسيق مع الجهات المهتمة بسعودة القطاع الخاص من وزارة العمل وهيئة توليد الوظائف وغيرها من الجهات.
الجامعات من المفترض أن تكون هي الموطن الرئيس لبيوت الخبرة في مختلف العلوم. كما أنها المكان الصحيح لتقديم مختلف الحلول للقضايا التنموية، فضلا عن أن تثقل الميزانية السنوية للحكومة وتصبح أحد مصادر الهدر فيها. الغريب أن معظم الجامعات فشلت في تقديم حلول للجهات الحكومية سواء على مستوى الحلول التقنية أو الإدارية أو الفنية أو غيرها. فمثلا كيف تفشل بعض الجامعات في حماية أنظمتها الحاسوبية وتتعرض لاختراقات تقنية مع وجود أساتذة في أمن المعلومات؟!
وكيف تفشل بعض الجامعات في إدارة تقنية المعلومات وتطوير أنظمة المعلومات المالية والإدارية والفنية ولديها مختصون في البرمجيات والتقنية؟
وأيضا كيف تفشل بعض الجامعات في وضع الخطط الاستراتيجية ولديها مختصون في الإدارة والتنظيم الإداري؟
وقس على ذلك الجوانب الهندسية والطبية والتربوية وغيرها. فالجامعات لم تعد نموذجا حكوميا في جودة أنظمتها وإدارتها ومخرجاتها على الرغم من احتضانها للكوادر البشرية التي تمكنها من تحقيق هذه الغاية الجليلة.
لا شك أن الجامعات لا تعاني جودة كوادرها البشرية بل لديها كوادر مميزة في كل المجالات. هذه الكوادر قادرة على السمو بالعملية التعليمية لمراحل متقدمة ومنافسة. لكن عديد من الجامعات تفتقد البيئة الأكاديمية الصحية التي تمكنها من تحقيق استفادة حقيقية من كوادرها. البيئة الأكاديمية الحالية لا تختلف عن بيئة أي دائرة حكومية من حيث طبيعة مشكلاتها الإدارية. هذه البيئة الطاردة للكفاءات الجامعية المميزة والنادرة في أحيان كثيرة تسببت في هروب الكفاءات الأكاديمية المميزة إما لقطاعات أخرى أو لمحاولة إثبات الذات خارج الحرم الجامعي عبر العمل في استشارات وخلافه.
من جهة أخرى، تسببت هذه البيئة الطاردة في أن تضطر بعض الجامعات لدفع مبالغ طائلة من أجل أن تستعين ببيوت الخبرة لمساعدتها في تقديم الحلول ومواجهات التحديات الأكاديمية والفنية والإدارية والتقنية.
لذا فإني أتفق مع ما طرحه وزير التعليم في مقالة له ـــ قبل أكثر من سنتين وقبل تقلده مهام وزارة التعليم ـــ حول استقلال الجامعات حيث أوضح أن أهم ما سيسهم في إصلاح الجامعات خلق توازن في القرارات الإدارية والأكاديمية داخل الجامعات. ومما ذكره الوزير أهمية وجود توازن بين ثلاثة: مجلس الأمناء، وأعضاء هيئة التدريس (بالانتخاب بين الأعضاء)، ومجلس الجامعة. هذا التوازن بين هذه المجالس سيحقق حتما توازنا في القرارات داخل الجامعات ما سينعكس إيجابا على مصلحة الجامعات بصورة عامة.
لا شك أن ترشيد الميزانيات الجامعية يحتم الإسراع في تغيير أنظمتها من أجل إعادة البيئة الجامعية من بيئة طاردة للكفاءات إلى بيئة جاذبة لها ولن تتحقق هذه الغاية إلا عندما تستقل القرارات فيها وتعاد الانتخابات داخل الجامعات على مستوى أعضاء هيئة التدريس. فحاليا ـــ وبسبب التعيين المباشر وغير المؤهل ـــ يفتقد بعض الأكاديميين الإداريين المهارات الإدارية اللازمة لتحفيز بيئة العمل الإيجابية ففاقد الشيء لا يعطيه. بعضهم تجد لديهم ازدواجية في قراراتهم حسبما تحقق مصالحهم الشخصية. العمل الإداري الأكاديمي يحقق لهم مصالح شخصية ويمكنهم من إرضاء غرورهم التسلطي الذي تسبب في إيجاد بيئة أكاديمية سلبية. لذا فإن إعادة الانتخابات في الجامعات ستوجد البيئة اللازمة لاختيار الأجدر وتمكين الطاقات البشرية المميزة والمعطلة داخل الجامعات من أن تسهم في تقديم الحلول اللازمة للتعامل مع سياسة ترشيد الإنفاق بحكمة ومعرفة. من جهة أخرى، ستعزز الانتخابات إعادة ترتيب الأوليات داخل الأقسام والكليات لأنها ستكون وفقا لاحتياجاتها الحقيقية ليس بالضرورة لتحقيق مصالح شخصية. الأزمات المالية هي التي تبرز الكفاءات البشرية في القيادة ولا أدل على ذلك من أن كثيرا من النظريات الإدارية كانت نتاج أزمة مالية كالنظريات التي تدعم توجهات الخصخصة كـ public choice &Property rights وغيرها.
لذا فإعادة ثقافة الانتخاب داخل الجامعات لم تعد خيارا بل الطريق الطبيعي لإعادة دور الجامعات نحو المسار الصحيح. الانتخابات هي إحدى أهم وسائل التحول في مسار الجامعات وحلحلة الشللية الحالية والبيئة السلبية الجامعية الطاردة إلى تمكين الكفاءات المميزة لتولي زمام القيادة وتوفير بيئة جاذبة. لكن هذا القرار ـــ وكما ذكرت في مقال سابق ـــ يجب أن يتم بعد إعادة هيكلة الجامعات الطرفية وتحويلها إلى جامعات تخصصية في مختلف العلوم كالطب والهندسية والإدارة والتربية وخلافه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي