لقاء الملك بالأدباء .. التغيير يبدأ بالعقول «2»
يتيح هذا الملتقى كل عام مسافة فهم أقرب لنا، ومسافة حديث يتصف بخصوصية التناول، وصدق الطرح في ديوان لا يترقب أحد فيه ظهورا إعلاميا، ولا تصفيقا جماهيريا، أحيانا تكون الجماهيرية ضربا من أضرب الغواية، أو من أسباب كتمان حقائق العقل، أو مواراة الواقع الذي لا يتقبله الجمهور، ثمة محددات يحدها الجمهور والرأي السائد، وسطوة غضب الناس ورضاهم.
في هذا المنحنى من الزمان على قلته، تستضيف المملكة عبر الجنادرية النخب الفكرية والإعلامية، من كل دول العالم، حيث تتقلص المسافة في الفهم المتبادل، إنهم يَرَوْنَنَا هنا، بعد أن سمعوا عنا، ما يزيح إرباك الفهم وما يداخله..، واقعية الملتقى المفتوح هذا.. لا تكتفي بتحسين صورتنا فقط، بل تزيل الغموض المكنون عن كثير مما لا يمكن الإفصاح عنه علانية. وبهذا يعد "الجنادرية" جهدا استثنائيا جدا في طموحه وفي الجهد الذي بذل فيه، وفي سعيه الدائم لجعل المملكة ملتقى يتسع ويمتد ليستوعب الخليج بكل نخبه ومثقفيه ومفكريه من أقاصي المغرب العربي، في أساتذته والمبدعين من أهله، رجالا ونساء.
هذا الجانب مغيب عن كثير من السعوديين، لأنه غير مرئي لهم، ولا ظاهر أمامهم، وقلما جرى به قلم، أو وقف عنده حديث. هذا الاستيعاب لحوار العقول، على تعدد المنابع والمسارب وتقابل الآراء فيه خير متعدد الوجوه، إننا نتعلم من العالم كل ما بوسعنا أن نتعلمه، ونمتص من رحيق هذه العقول الكبيرة، والنفوس الطاهرة ما بوسعنا أن نمتصه، وما نستطيع اغترافه.
إن عددا غير قليل من المفكرين يكتب في هذه الزيارة المتسعة وصاياه في مجال اختصاصه للمملكة حكومة وشعبا أو وزارة محددة من وزارات الدولة. هذا سلوك يقربنا بعمق أكثر من عالمنا العربي ويقرب العالم إلينا، يُضيق المسافة الفاصلة، يجعلنا في حكمة المسترشد، والحريص على الترقي بهم ومساعدتهم ومن خلالهم.
إن هذا البلد جزء حقيقي من أوطانهم، وهو يتفاضل عليها بكونه القبلة والوجهة والمحراب، والبيت العتيق، بيت إبراهيم، ومثوى محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه، وفيه مجرى الرسالات، وطهر المشاعر، وعروق الحضارات وجذرها الأول، عاد وثمود وصالح ومن قبل إسماعيل وإسحاق وإبراهيم حتى نور الجمال والوجود محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
بهذا الموروث العظيم.. ليس بوسع أحد إلا أن يحب المملكة، أو يخاف عليها، أو لا يتمنى أن تكون هي سنبلة القمح المتثنية بثقل محامل الخير.. وجميل عطايا الله لها وعليها.
ولعلي بشجاعة خجولة أشير إلى حجم التبدل والتغير الهائل والعظيم الذي حدث لكثير من النخب العربية بعد هذه الزيارات، لأنهم هنا يلتقون بالمثقفين والأدباء والمفكرين السعوديين، ما يزيل عنهم صورة الناقة التي تسير على حوافرها، وإلى جوارها تابع لها، وطارد عنها راع ضئيل الوعي محدود الإدراك والعقل.
لعلنا دون أن نشعر وندرك، رسخنا هذه الصورة عنا، حين لم نوجد مسافة فاصلة بين التراث الذي لا نخجل منه، ويشاركنا العالم فيه، وبين وعينا الحاضر، وقدرتنا على صناعة المستقبل، بوصفنا جزءا منه، وجزءا من وعيه وثقافته ومقدماته الحضارية.