الفترة الذهبية لمراجعة أداء الأجهزة الحكومية

علينا مراجعة وتقويم ميزانية الإنفاق للسنوات السابقة قبل الحديث عن كيفية رفع كفاءة أدائها هذا العام. والبداية الصحيحة تكون بالمكاشفة عند الإجابة عن سؤال كيف تم استثمار ميزانيات الأعوام السابقة؟ وهل بالفعل تم استثمارها بصورة صحيحة؟
أعتقد أن بعض المسؤولين بدأ بتبرير ضعف الإنتاجية بدعوى قلة الاعتمادات المالية لهذا العام، لكن من المؤسف أنهم نسوا أو تناسوا أنهم لم يستثمروا ميزانيات الأعوام السابقة بصورة حكيمة. فمثلا البعض استغل الوفرة المالية في تعيينات أقل ما يقال عنها إنها غير مؤهلة. لذا لم يكن ولن يكون لها أثر في رفع كفاءة الإدارات التي يعملون فيها. الطامة الكبرى أن بعض المديرين التنفيذيين يتعمد تعيين غير المؤهلين بدعوى أن التأهيل الحقيقي يعتمد على قدرة الموظف على تنفيذ ما يطلب منه دون تردد بمعنى "يسمع الكلام" وينفذ أكثر مما يفكر. المشكلة الأكبر التي قد لا يعيها هؤلاء أن تعيين غير المؤهلين يؤخر تطور منشآتهم ويجر تلك المنشآت لتطبيق الإدارة بالمحاولة try and error دون وعي أو إدراك لعواقب قراراتهم.
تعيين الكفاءات البشرية المؤهلة يختصر مسافات الزمن ويقلل استنزاف الميزانيات بصورة سلبية. فمثلا، تعيين الكفاءات المؤهلة يختصر زمن اتخاذ القرارات الصائبة بسبب معرفة تلك الكفاءات بما تريد عمله وكيفية عمله وأولويات كل مرحلة، بينما الكفاءات غير المؤهلة تجتهد وتتخبط لفترة طويلة قبل أن تعرف الطريق الصحيح الذي عليها السير فيه. وبالطبع هذا التخبط سيقود إلى استنزاف مالي وضياع أوقات كان بالإمكان استغلالها بصورة أفضل لو كانت لديها المهارات اللازمة أو الخبرات الكافية. ولا يعني كلامي هذا أننا لا نتوقع وقوع أخطاء لأن من لا يعمل هو من لا يخطئ، لكن السؤال ما مدى تأثير الخطأ وسبب حدوثه ومدى توافر المهارات والخبرات اللازمة لتقليل أثر تلك الأخطاء؟
أعتقد لو كان ستيفن جوبز مؤسس شركة أبل حيا لأصيب بانهيار عصبي بسبب تردي معايير أسس اختيار الكفاءات البشرية وما نتوقع منها. فمن أشهر أقوال ستيفن جوبز عن تعيين الكفاءات البشرية أنه من غير المنطقي أن نعين الأشخاص الأذكياء من أجل أن نقول لهم ماذا نعمل، وإنما نعين الأشخاص الأذكياء من أجل أن يخبرونا ما يجب علينا عمله. أعتقد أن أحد أسباب شح القيادات لدينا أننا لم نوفر البيئة المناسبة لبروزها أو أن العقلية التي من المفترض أن تختار القيادات غير مؤهلة لتولي زمام هذا الأمر لأنها تحاربها. ففاقد الشيء لا يعطيه.
كما أن البعض الآخر استغل الوفرة المالية السابقة في التركيز على مشاريع لا تشكل أولوية حقيقية لمنشآتهم وإنما تم إقرارها لتحقيق مصالح أقل ما يقال عنها أنها آنية إن لم نقل شخصية. لذا فمن غير المنطق عزل هذه السنة المالية عن السنوات السابقة، فالوفرة المالية السابقة عرت وكشفت عجز بعض المسؤولين عن القيام بأدوارهم. فخلال السنوات الماضية كانت جميع الوزارات الحكومية لديها وفرة مالية لكن الفرق فيما بينها في كيفية استثمار تلك المبالغ المالية. هذه الحقيقة تعود بنا إلى الوراء قليلا مع بداية التسعينيات الميلادية، وما تبع غزو الكويت من انعكاسات سلبية على الاقتصاد الوطني، فكانت المخصصات المالية للوزارات محدودة جدا في ظل عجز مالي مرتفع. فقد كان الوزراء يرددون أن محدودية الميزانيات تقف عثرة أمام تطوير الخدمات. لكن خلال السنوات العشر الماضية كانت الوفرة المالية هي الأساس ومع ذلك لم تصل الخدمات لطموح المواطن لأسباب كان أهمها تعثر المشاريع.
لذا فنحن أمام كماشتين تضعنا بينهما القيادات غير الناجحة لتبرير فشلها، الأولى: ضعف في المخصصات المالية، والثانية: تعثر تنفيذ المشاريع. وفي كلتا الحالتين فالنتيجة شبه واحدة.
إن ما يعرف بالدورة الاقتصادية التي نمر بها تتطلب منا استثمار سنوات الوفرة المالية للسنوات التي تليها. هذه الدورة الاقتصادية التي أفضل من تعامل معها سيدنا يوسف - عليه السلام - عندما فسر رؤية الملك حول رؤيا سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات إلى آخر الرؤيا المعروفة للجميع. فكان من أهم القرارات التي أوصى بها سيدنا يوسف - عليه السلام - ربط سنوات الوفرة المالية بالسنوات التي تليها من أجل تحقيق استثمار أفضل للبلاد. لذا فالجهات الحكومية التي استطاعت أن تستثمر ميزانياتها خلال السنوات الماضية بصورة مثلى لا شك أن محدودية الميزانيات لهذا العام سيكون أثرها فيها محدودا لأنها استطاعت ترتيب أولويات الإنفاق بالشكل الصحيح وأن تستثمر في الموارد البشرية التي تختصر لها مسافات الزمن والعكس بالعكس.
باختصار إن من زرع في السنوات الماضية موارد بشرية مؤهلة ومشاريع عملاقة سينعكس أثر ذلك بشكل مباشر على مؤسساتهم الحكومية، وسيكون أثر سياسة ترشيد الإنفاق فيها محدودا والعكس بالعكس. لذا فإننا نمر بالفترة الذهبية لتقييم ومراجعة ومعرفة من أحسن الأداء خلال الفترة الماضية ممن لم يحسن الأداء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي