رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


التخصيص بين حل مشكلتنا وفخ استيراد الحلول

كثر الحديث عن التخصيص، خاصة بعد صدور ميزانية عام 2016، التي حملت عجزا قياسيا، واحتمالات الاقتراض مع توجه الدولة إلى إصلاحات تهدف إلى تخفيف العبء عن الميزانية العامة للدولة، وفي مقال عن الميزانية العامة والاقتصاد السعودي كتبت أن مشكلتنا الاقتصادية هي أن الاقتصاد يدور حول الحكومة، وليست الحكومة التي تدور في فلك الاقتصاد. وبوضوح أكثر، فالاقتصاد إما رأسمالي يعتمد على الملكية الفردية أساسا مع بعض الملكية العامة لظروف معينة، أو اشتراكية واسعة "ملكية عامة" مع بعض الحرية في الملكية الخاصة بقيود. حتى الآن لا يوجد نموذج ثالث إلا فقط تطرفا في الجانبين، وهذا التطرف ثبت فشله منذ عقود، فلم يبقَ لنا في العالم سوى هذين النموذجين المتنافسين في تفسير الاقتصاد. نحن في المملكة نرتكز على نموذج الملكية العامة، وبتوسع جزئي في الملكية الفردية "الخاصة". ومشكلتنا هي أن الملكية الخاصة لدينا لا تنتج الثروة الكافية، بل إن مكمن إنتاج الثروة في المملكة هو في يد الملكية العامة "ممثلة في الدولة"، القطاع الخاص بكل ما يملكه لم يسهم إلا بشيء محدود جدا حتى الآن، ويجب أن نعي أن ذلك ليس بسبب ضعف ممتلكاته، بل إنه يملك كثيرا من الثروة اليوم، فهناك ودائع في المصارف تقدر بنحو 1600 مليار ريال، بينما حجم موجودات المصارف السعودية يقفز فوق حاجز تريليوني ريال، وهذه ثروة ضخمة لا شك، وفي يد أهم قطاع وهو قطاع التمويل. تغطي المملكة العربية السعودية مساحة مليوني كيلومترا مربع، أي 80 في المائة من مساحة الجزيرة العربية، وبخلاف مشروع الهيئة الملكية للجبيل وينبع الذي يغطي مساحات واسعة جدا في مدينتي الجبيل وينبع، تقوم هيئة المدن الصناعية ومناطق التقنية بإدارة وتطوير 114 كيلومترا مربعا من الأراضي في أكثر من 32 مدينة صناعية. إذاً ماذا بقي لنا حتى نتحول من اقتصاد يعتمد على الملكية العامة "الدولة" التي تنتج جل الثروة إلى الاعتماد على الملكية الفردية "القطاع الخاص"؟ في اعتقادي لا شيء سوى تغيير في المفاهيم والتفكير الاقتصادي.
مشكلة الملكية العامة هي في عدم وجود حقوق ملكية تفرض نماذج متطورة ومتقدمة لتوزيع الدخل الناتج من استخدام عوامل الإنتاج. وبلغة اقتصادية "بسيطة" فإن إنتاج الثروة يتطلب توزيعها بعد ذلك، بدون حقوق ملكية واضحة تبدأ مشكلة التوزيع ويبدأ الخلل فيها ويستشري الفساد. نحن في المملكة لدينا قطاع اقتصادي ضخم ينتج ثروة هائلة لكنها ليست تحت سيطرة حقوق ملكية واضحة. في الجانب الآخر لدينا ممتلكات وعوامل إنتاج ضخمة تقع تحت يد حقوق ملكية واضحة لكنها غير فعالة وغير منتجة للثروة. هذا هو صلب مشكلتنا الاقتصادية. نحن نتوقع أن مشكلتنا هي نفسها في دول أخرى مجاورة، حيث ظهر التخصيص فيها كحل ونجح "جزئيا"، لكن من المهم ملاحظة أنه كانت لديهم ممتلكات هائلة في يد القطاع العام لكنها غير منتجة، بينما لديهم ممتلكات بسيطة في يد القطاع الخاص لكنها منتجة، فكان الحل ببساطة هو نقل ما يملكه القطاع العام إلى الخاص لحل المشكلة، لكن الوضع لدينا مختلف تماما.
القطاع العام لديه ممتلكات ضخمة ومنتج للثروة، لكنه مسرف، لا يجيد توزيع الدخل على عوامل الإنتاج بكفاءة، في المقابل القطاع الخاص لديه ممتلكات ضخمة أيضا لكنه غير منتج وكسول، ورغم ذلك يجيد توزيع الدخل. إذا نقلنا القطاعات المنتجة المسرفة إلى القطاع الخاص فسنصاب بشلل، وإذا نقلنا القطاعات غير المنتجة لم نفعل سوى زيادة ثروات القطاع الخاص، وسيبقى الحال على ما هو عليه.
الجميع يستشهد بتجربة شركة الاتصالات، حيث نقلنا ممتلكات القطاع العام الممثلة حينها في وزارة البرق والبريد والهاتف إلى شركة الاتصالات، من خلال إنشاء حقوق ملكية على شكل أسهم ثم بيع تلك الأسهم في السوق المحلية. بالطبع لا يمكن لأحد أن ينكر نجاح هذه التجربة، فقطاع الاتصالات الذي كان في يد وزارة الهاتف سابقا كان منتجا بطبيعته ولم نصب بشلل عندما نقلناه إلى القطاع الخاص كما ادعيت أعلاه، لكن يجب أولا ملاحظة أن نقل الاتصالات واجه صعوبات في أول الأمر وأصيبت الشركة بمشكلات كبيرة في البدايات، لكن فتح السوق للمنافسة هو الذي أوحى بالنجاح، الأمر الثاني أن مرتكز نجاحات شركات الاتصالات في المملكة نابع أساسا من الثروة التي تنتجها القطاعات الإنتاجية التي في يد القطاع العام، فمعظم القدرة الشرائية في المجتمع لم تزل تأتي من العاملين في القطاع العام ولو انخفضت هذه القدرة لأي سبب فإن شركات الاتصالات لدينا لم تزل غير قادرة على المنافسة العالمية والاستحواذ خارج المملكة. وتجربة "الخطوط السعودية" لم تزل رهن المتابعة ولم تقم حتى الآن بما يثبت نجاحها. وفي اعتقادي الخاص أن خصخصة الخدمات الحكومية ستكون كارثة، ويجب ألا نفكر في هذا الطريق أبدا.
نحن بحاجة إلى نموذج خاص ومبتكر في الخصخصة ينبع من مشكلتنا وليس استيرادا للحلول، نحن بحاجة إلى إيجاد قطاع خاص فاعل ومنتج، وعلى الحكومة أن تقوم بهذا الدور لأنها نشيطة وحريصة، ولدينا فرصة وجود قيادات شابة طموحة في أعلى الهرم. ويتم ذلك من خلال ما تملكه الدولة من سلطة سيادية على مؤسسات التمويل في المملكة وسمعتها في الخارج، وما تملكه من أراض وقوة سيادية عليها، إضافة إلى ما يمكن تخصصيه من دخل رسوم الأراضي البيضاء، وذلك بتحمل مخاطر إنشاء مصانع وشركات صغيرة ومتوسطة وعملاقة صناعية تماما وغير معتمدة على منتجات نفطية، وغير مرتكزة على الدعم الحكومي، نموذج لشركات ما بعد النفط، يستقطب لها كفاءات من المملكة والعالم، ليس لهم علاقة بالقطاع العام ولم يعملوا فيه، لأنهم تعودوا هناك على الإسراف، وليسوا ممن أدمنوا الدعم الحكومي في القطاع الخاص، يعملون جميعا لبناء شركات كنموذج أرامكو بين صغيرة وكبيرة، مستغلين المدن الصناعية على طول المملكة، ثم إذا نجحت هذه الشركات واستقلت بذاتها وبدأت إنتاج الثروة بكفاءة يتم بيع حصة الحكومة في سوق المال حتى لا نقع في مشكلة غياب حقوق الملكية، ثم على هذه الشركات أن تدفع ضرائب للدولة لتعزيز المالية العامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي