الصناعة النفطية تزيد من حوافزها للخروج من مأزق الكوادر البشرية

الصناعة النفطية تزيد من حوافزها للخروج من مأزق الكوادر البشرية

هناك جيل من العاملين في صناعة النفط يتجه إلى التقاعد رغم التصاعد في الطلب الذي يفرض من الناحية الأخرى وجود المزيد من هؤلاء العاملين، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تعطيل التوسع في المشاريع النفطية القائمة أو إقامة مشاريع جديدة.
وتزداد المشكلة حدة في القطاع الخاص بندرة مديرين لهم قدرات على إدارة المشاريع النفطية حتى أصبحوا مثل نجوم الروك وهم نادرو الوجود، كما يقول ديفيد هوبس من رابطة كامبردج لأبحاث الطاقة. فمثلا الإنتاج النفطي من المناطق المغمورة يخطط له أن يرتفع من أربعة ملايين برميل يوميا إلى 11 مليونا بحلول عام 2011، لكن هذا يعتمد على تمكن الصناعة النفطية من تجاوز بعض العقبات وعلى رأسها توافر العمالة المطلوبة.
فخلال العقد المقبل يتوقع أن يذهب كثيرون إلى التقاعد، وبالتالي ستفقد الصناعة مجموعة من أفضل أبنائها، وليس هناك من يحل محلهم بصورة تلقائية. وفي الولايات المتحدة مثلا، فإن نصف عدد العاملين في صناعة النفط تراوح أعمارهم بين 50 و60 عاما، ونحو 15 في المائة فقط في العشرينيات من أعمارهم.
الضربة التي تلقتها الصناعة خلال عقد الثمانينيات لا تزال تلقي بآثارها، ففي تلك الفترة وبسبب حالة التخمة التي عاشتها السوق اتجهت الصناعة إلى الانهيار وتدهور سعر البرميل إلى أقل من عشرة دولارات، وأقفلت الكثير من مناطق الإنتاج الصغيرة في الولايات المتحدة مثلا. ومن النتائج المباشرة لهذا الوضع القيام بعمليات تسريح واسعة النطاق للعاملين خاصة في مجالات الجيولوجيا وهندسة البترول والمهندسين الكيماويين، إلى جانب فنيي الحفر وغيرهم، ولهذا لا يرغب كثيرون في تكرار تلك التجربة أو العمل تحت ظل مثل هذا السيف المسلط. ثم إنه من الناحية الأخرى، فإن الصناعة النفطية ترتبط في أذهان العديدين بالشركات المتعددة الجنسيات الضالعة في عمليات الإفساد وتأجيج الحروب، كما أن الصناعة نفسها تعد من أكبر ملوثات البيئة، وهو موضوع اكتسب أبعادا جديدة مع تنامي الوعي بعمليات التغير المناخي، الأمر الذي يجعلها أقل جذبا لأجيال جديدة لتركز مسار حياتها العملية عليها.
أحد الوسائل المقترحة لمواجهة وضع العمالة الخطر هذا يتمثل في تسريع عمليات ترقية المهنيين والفنيين، الأمر الذي يمكن أن يعني وضع أجيال جديدة أكثر شبابا في مواقع المسؤولية والقيادة حتى قبل أن يكونوا مؤهلين لها تماما.
وبسبب سياسة الحوافز المقدمة، فإن تكلفة توفير الخدمات زادت 53 في المائة منذ عام 2004، لكن هذا الزيادة أسهمت في الوفاء ببعض الجداول الموضوعة للتنفيذ.
لكن من جانب آخر، فإن بعض المشاريع تم تأخيرها، وكنموذج على ذلك مشروع ثندر هورس في خليج المكسيك، الذي تم تأخيره لفترة عامين إلى 2008 من قبل الشركة المنفذة وهي "بي. بي".
والمشكلة لا تقتصر على الشركات النفطية الكبرى، بل حتى الدول المنتجة والمصدرة للنفط أصبح بعضها يعاني بصورة أو أخرى. فالكويت مثلا تقول عبر شركة النفط الوطنية الكويتية إن نقص العمالة يمثل سببا رئيسيا لتعطيل مشروع زيادة الطاقة الإنتاجية من 2.7 مليون برميل يوميا إلى أربعة ملايين برميل بحلول العام 2020، خاصة ومعظم الطاقة الجديدة المضافة تحتاج إلى تقنية متقدمة ومهارة بشرية عالية.
وأجريت دراسة شملت نحو 100 شركة أمريكية وبريطانية، وجدت أن الطلب على المهندسين يجعلهم في موقع من يمكنه فرض شروطه والاختيار بين المواقع للعمل كما يريد. فسلسلة الصناعة من فوهة البئر إلى المسح، فاستخراج النفط أو الغاز ونقله عبر خطوط الأنابيب أصبحت تعاني كلها بسبب قلة القوى البشرية المؤهلة بسبب ضعف الاستثمار وقلته في هذا الجانب طوال العقدين الماضيين. ويظهر هذا في أن عدد الذين كانوا يدرسون هندسة البترول وصل عددهم عام 1983 إلى أكثر من 11 ألفا، لكنه تقلص قبل عامين إلى نحو 1700 طالبا، كما أن عدد الجامعات التي تقدم هذه البرامج تقلص بنحو النصف إلى 17 فقط خلال الفترة نفسها. وبلغ القبول أقل معدل له وهو 1300 طالب في عام 1997.
ووفقا لمعهد البترول الأمريكي، فإن الشركات النفطية تحتاج إلى نحو خمسة آلاف مهندس و1300 عالم جيولوجي لمقابلة احتياجاتها التوسعية، سواء للمشاريع الجديدة أو تلك القائمة، وتوفير هذا العدد في الواقع الأكاديمي الراهن يشكل تحديا كما يقول المعهد. فمع أن الشركات تعوم فوق أرباح قياسية إلا أنها لا تستطيع تحويل جزء من تلك الأموال إلى التوسع في الصناعة، لأسباب عديدة من بينها قلة وجود الأيدي العاملة المدربة.
وبصورة عامة، يبدو أن الصناعة دخلت إحدى دورات الانتعاش بعد طول كساد، ولو أن بعض الشركات قد لا ترغب في تكرار الدروس القاسية التي مرت عليها قبل عقدين من الزمان عندما اضطرت إلى تسريح الآلاف بسبب تدهور أسعار النفط، لذا تتبنى سياسات حذرة.
وأدت هذا الندرة التي أصابت فيما أصابت بعض الشركات الأمريكية في كلورادو، فكيم بينيت أحد مديري شركات الغاز اضطر إلى الذهاب إلى الصين والتنقل إلى مسافة سبعة آلاف ميل حتى عثر على الحفارة التي تناسبه، ويمكنه استخدامها لحفر أربعة آبار في غرب الولاية.
شركة أخرى في كلورادو أقعدتها ندرة العمالة عن التوسع مع بقاء العديد من المواقع شاغرة لعدم وجود فنيين مؤهلين يمكن تعيينهم، الأمر الذي دفع مديرها كريس جريمسلاند إلى القيام برحلة إلى روسيا بحثا عن الفنيين الذين يحتاج إليهم بعد ن قرأ أن شركة لوكهيد مارتن حصلت على بعض مبتغاها في روسيا. زار كريس جنوب سيبيريا حيث نشر إعلانات بخصوص رغبته، وفي اليوم التالي في تمام الساعة الثامنة صباحا وجود طابورا من الراغبين في العمل يمتد على مسافة نصف ميل في انتظاره. طبعا هناك عامل الهجرة إلى الولايات المتحدة الذي شكل حافزا للكثيرين.
ويقول كريس إن اللغة شكلت حاجزا إلى حد ما، لأنه في نهاية الأمر، لكن بما أن العمل سيكون إلى حد كبير من خلال الأرقام، فإن هذا يسهل الأمر من ناحية ويدفع العاملين إلى تعلم بعض الكلمات لتسيير الأمور. وفي النهاية تم التعاقد مع ستة من الفنيين الروس للعمل في كلورادو، وأستمر أحدهم بالعمل في كلورادو لفترة خمس سنوات. ومع ملاحظة أن كل حفارة تحتاج إلى نحو 40 شخصا لتشغيلها بصورة متكاملة من فنيين وسائقين إلى المشرفين، فإن أجر المشرف تصاعد في الفترة من 40 ألف دولار بضعفين ونصف إلى 100 ألف دولار. ولهذا السبب قدمت ولاية كلورادو منحة بمبلغ مليون دولار لدعم الكليات التي تدير برامج دراسية لفترة عامين أو أربعة لتخريج فنيين يمكنهم سد النقص في صناعة النفط. والأمر لا يقتصر على الفنيين فقط، فمهندس الحفر زاد راتبه نحو 20 في المائة خلال فترة الأشهر الستة الأخيرة من العام الماضي إلى 172 ألف دولار في العام إلى جانب 15 ألفا على شكل حوافز.
أحد النتائج الجانبية لهذا الوضع أنه وبسبب النمو الكبير في الطلب وأن النفط يوجد في العادة في مناطق موحشة لا يرغب أحد في الذهاب إليها والبقاء فيها، فإن شركات النفط أصبحت تهتم بالمعسكرات التي تقيمها للعاملين حتى تصبح أكثر جذبا للبقاء فيها. فبدلا من السكن الجماعي تزايدت أعداد الغرف المفردة لكل شخص، إلى جانب وجود الأطباق الفضائية التي تلتقط مختلف القنوات التلفزيونية وتعرضها على شاشة عريضة مسطحة.
ووصل الأمر بشركة إكسون موبيل إلى بناء منصة للعمل في خليج المكسيك تتضمن غرف نوم خاصة، مقهى للإنترنت، مسرح، وقاعة للسينما. وتم تصميم هذه المرافق بين فنلندا وتكساس، وسيتم تركيبها خلال هذا الصيف. وفي أماكن عديدة يعمل العاملون لفترة 24 يوما متصلة يحصلون بعدها على يومين عطلة، ويقوم المعسكر بتوفير الأكل والغسيل والنظافة مجانا.
تزايد الإنفاق على الجوانب الإدارية أسهم في المشكلة إلى حد ما، وهو ما أدى إلى رفع تكلفة الإنفاق على هذه المعسكرات إلى نحو 120 مليون دولار لمعسكر يضم 2500 شخص. وأسهم هذا بالطبع في تراجع الهامش الربحي للشركات، التي لا يبدو أمامها خيار من أجل جذب العاملين للالتحاق بها وإقناعهم على البقاء فيها لأطول فترة ممكنة. هذا إلى جانب أن الأرباح في المتوسط تسجل معدلا أعلى مما كانت عليه قبل عامين بنحو 53 في المائة، مثلما تقول دراسة لرابطة كامبيردج لأبحاث الطاقة، ووفق المقياس الذي تعتمده في هذه الحالة.

الأكثر قراءة