اتفاق باريس للتغير المناخي .. هل يوجِد تحولا اقتصاديا في المملكة؟

أقر ممثلو قرابة 200 دولة مجتمعة في باريس اتفاقا تاريخيا يلزم الدول بوضع أهداف جديدة لمكافحة التغير المناخي. ففي قرابة الساعة الـ 7:30 مساء بتوقيت باريس، أعلن لورين فابيوس وزير الخارجية الفرنسي إقرار الاتفاق، وتبع ذلك تصفيق حار من الحاضرين في القاعة المعدة للاجتماع في مطار لاربورجيه في شمال باريس. لكن هل التصفيق الحار وكلمات الإطراء التي تبعت ذلك من قادة الدول وعلى رأسهم باراك أوباما الرئيس الأمريكي وجون كيري وزير خارجيته تعكس النجاح المأمول قبل الاجتماع؟ هذا الأمر محل جدل، لكنه بالتأكيد اتفاق لا يرضي الجميع ولكن تتفق عليه جميع الأطراف. بمعنى آخر هو اتفاق الممكن وليس اتفاق المأمول. الاتفاق كان نتيجة مفاوضات صعبة جدا خلال الأسبوعين الأخيرين، بذل فيها ممثلو الوفود جهدا كبيرا في سبيل المحافظة على مصالح بلدانهم، وهنا أود الإشادة بالمفاوضين الذين مثلوا المملكة في هذه المفاوضات المرهقة التي تعتبر المملكة طرفا رئيسا فيها، وستؤدي إلى تغيير النظرة المستقبلية لأهم مصادر الدخل الوطني بالنسبة للمملكة وهو النفط.
وأهم معالم هذا الاتفاق هو أنه يهدف إلى المحافظة على درجة حرارة الأرض أقل من 2 درجة مئوية "well below 2C above pre-industrial levels"، وعلى العمل "pursue efforts" إلى الحد من زيادة درجة حرارة الأرض إلى 1.5 درجة مئوية مقارنة بمستويات ما قبل الثورة الصناعية. ولتحقق الدول هذا الهدف، يؤكد الاتفاق أن الدول يجب أن تستهدف الوصول إلى وضع سقف أقصى للانبعاثات بأقرب وقت ممكن والوصول إلى توازن بين الانبعاثات الناتجة عن التلوث الذي يسببه نشاط الإنسان وبين قدرة الموارد الطبيعية في الأرض على استيعاب هذا التلوث. وسيصبح الاتفاق ساري المفعول في حال تمت المصادقة عليه من قبل 55 دولة تمثل ما نسبته 55 من الانبعاثات الكربونية. ومن وجهة نظر داعمي قضايا مكافحة التغير المناخي، فإن هذا الاتفاق هو أقل مما يطمحون إليه حيث إن الالتزامات المقدمة حاليا من الدول لا تؤدي بالتأكيد إلى تحقيق الهدف المستهدف (2 و1.5 درجة مئوية). لكن من وجهة نظر آخرين فهم يرون في الاتفاق نجاحا كبيرا حيث إنه يلزم الدول بعمل ما من شأنه تحقيق هذه الأهداف كما أنه يتضمن آلية مراجعة من قبل الأمم المتحدة لضمان ذلك.
هذه القضية هي إحدى القضايا محل الخلاف الكبير بين الدول النامية والدول المتقدمة، حيث ترى الدول النامية أن الدول المتقدمة مسؤولة بشكل أكبر عن ارتفاع درجة حرارة الأرض وبالتالي فعليها أن تقدم التزامات أكبر مقارنة بالدول النامية التي تحاول اللحاق بركب الدول المتقدمة من حيث مستويات الإنتاج والدخل. وفي هذا الإطار، فإن الاتفاق يحقق بعضا من تطلعات الدول النامية من حيث إلزام الدول المتقدمة التي تقدمت بالتزامات لخفض الانبعاثات بتقديم تفصيل لهذه الالتزامات ومراجعتها بشكل دوري من قبل الأمم المتحدة، بينما لا تلتزم الدول النامية بالدرجة نفسها من التفصيل بهذه الالتزامات. وتطالب الدول المتقدمة بأن يكون هناك طريقة موحدة لتقديم الالتزامات common reporting، فيما تطالب الهند وعدد من الدول النامية بأن يكون هناك آلية قوية لمراجعة الالتزامات لكنها تطبق بشكل غير متوازن بين الدول النامية والدول المتقدمة، بالنظر إلى أن الدول المتقدمة أسهمت بشكل أكبر في تراكم الانبعاثات. وفي هذا الإطار تقر الاتفاقية بأن الوصول إلى سقف الانبعاثات سيأخذ وقتا أطول بالنسبة للدول النامية مقارنة بالدول المتقدمة. كذلك، من أهم النتائج الإيجابية بالنسبة للدول النامية هو الاستمرار في إقرار مبدأ المسؤوليات العامة والمختلفة من حيث الإلزام بين الدول النامية والمتقدمة، ما يلزم الدول المتقدمة بالاستمرار في تقديم التمويل اللازم للدول النامية لعملية التكيف مع التغير المناخي.
لكن ما الأثر الاقتصادي لهذا الاتفاق؟ وكيف يمكن للدول التكيف مع ذلك؟. هناك شبه إجماع على أن الوقود الأحفوري الذي يشمل الفحم والنفط هو مسبب رئيس للانبعاثات الكربونية التي تسهم في ارتفاع درجة حرارة الأرض. وبالتالي فإن هدف الحد من هذه الانبعاثات سيؤدي إلى الحد من استخدام الطاقة الناتجة عن الوقود الأحفوري، وبالتالي تخفيض الطلب عليه، أو كما هو الشعار الذي يستخدمه المتحاملون على الوقود الأحفوري Keep it in the ground. وسيتحقق هذا الهدف من خلال تشجيع المستثمرين على تجنب الاستثمار في المجالات التي تستهلك الطاقة التي تؤدي إلى انبعاثات كربونية وبالتالي إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض. واستجابة المستثمرين ستعتمد على الطريقة التي سيتلقون بموجبها هذا الاتفاق من حيث جديته وشموليته لجميع الدول ومن حيث آلية المراجعة والمتابعة الناتجة عنه التي ستلزم الدول بالأهداف التي وضعتها لتخفيض الانبعاثات، وكذلك تقديم التزامات جديدة كل خمس سنوات لتخفيض متتال للانبعاثات حيث يتحقق هدف 1.5-2 درجة مئوية لارتفاع درجة حرارة الأرض. كذلك، ستعتمد استجابة المستثمرين على طريقة تعاطي الحكومات الموقعة على الاتفاق من حيث وضع التشريعات اللازمة لتخفيض الانبعاثات التي ستهدف إلى تقليل جاذبية الاستثمارات التي تؤدي إلى زيادة الانبعاثات الكربونية.
يبقى التحدي الأكبر بالنسبة للمملكة كأكبر منتج ومصدر للنفط هو استشراف المستقبل، والعمل على تنويع الاقتصاد بأسرع وقت ممكن حيث يقل الاعتماد على النفط ولا يتأثر مستوى الدخل الوطني وبالتالي المؤشرات الاقتصادية الأخرى والرفاهية الاقتصادية للمواطن بذلك. لا يخفى على أي متابع لهذه الحملات الكبيرة التي تتزعمها الدول الأوروبية والقيادة الديمقراطية في الولايات المتحدة أن الوقود الأحفوري وبالتحديد النفط مستهدف بشكل مباشر من هذا الاتفاق. وفي رأيهم أن ذلك يحقق هدفا نبيلا يتمثل في مكافحة التغير المناخي، لكنه في الوقت نفسه يوجد لهم فرصا اقتصادية كبيرة من خلال احتكار التقنيات المتعلقة بالطاقة المتجددة وبالتالي الإمساك بزمام الاقتصاد العالمي لعقود مقبلة. المهم ألا نكون ضحية لهذا التوجه، وأن نعمل على التكيف مع التيار من خلال إيجاد فرص ومجالات نمو جديدة في مجالات الطاقة المتجددة التي يمكن أن يكون للمملكة ميزة نسبية كبيرة فيها خصوصا فيما يتعلق بالطاقة الشمسية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي