وقفات مع تقرير «نيتشر» حول الجامعات
التقرير حول تقوية الجامعات في دول العالم الإسلامي الصادر من مجلة "نيتشر" Nature الدولية في يوم 28 من شهر أكتوبر الماضي يستحق مزيدا من التأمل، خصوصا من قبل مسؤولي التعليم في العالم الإسلامي. الجميل في التقرير أنه ركز على معايير محددة تتعلق بالنشر العلمي، ولم يتطرق إلى مسألة تصنيف الجامعات، التي تثير في الغالب كثيرا من الجدل واللغط، بدلا من استخدامها كمحطة لتطوير مخرجات الجامعات..
فمن النقاط التي يستحق التقرير الأخير الوقوف عندها، الجدول الذي يوضح ضعف إسهام الجامعات في دول العالم الإسلامي في الأبحاث والنشر العلمي بشكل خاص. فالمساهمة العلمية لجامعات العالم الإسلامي بما فيها الجامعات السعودية ضعيفة إن لم نقل مخجلة.
كان من المفترض أن يكون موقع المملكة العربية السعودية في البحث العلمي أفضل بكثير، لأسباب عديدة منها ما تتمتع به المملكة من استقرار سياسي وأمني واقتصادي، بينما يعاني عديد من دول العالم الإسلامي اضطرابات سياسية أو معضلات اقتصادية أو مشكلات أمنية متكررة، أضعفت النظرة التنموية على حساب الهاجس الأمني.
كما أن المملكة العربية السعودية تتميز عن غيرها من الدول الإسلامية بأنها من الدول الإسلامية عالية الدخل "عضو في G20"، كما تتميز بكثافة سكانية متوسطة، مع أعداد كبيرة من الجامعات، كما أن العقد الفائت شهد إنفاقا سخيا على التعليم، بل استحوذ الإنفاق على التعليم بما في ذلك التعليم العالي على نصيب الأسد من ميزانيات الدولة خلال تلك الفترة.
عند النظر إلى جدول المقارنات في التقرير المنشور في مجلة نيتشر nature يتضح لنا جليا أننا لسنا بأفضل حال من عديد من دول العالم الإسلامي إن لم نكن أسوأ من دول ذات إمكانات محدودة، سواء من الناحية المالية أو البشرية.
ولعلي في هذا المقال ومقالات لاحقة أتحدث عن بعض النقاط الاستراتيجية. لن أتناول الحديث عن التقرير بتفاصيله، لكن سأكتفي بالحديث حول نقاط استراتيجية محددة، قد يغفل عنها من قرأ التقرير.
فأولا: ما أهم الأهداف من التوسع الكبير في أعداد الجامعات السعودية؟
هل الهدف منه أن تسهم الجامعات الناشئة في إثراء العلوم إجمالا، إضافة إلى التدريس وتزويد سوق العمل بالكفاءات اللازمة، مع المشاركة المجتمعية في مناطق تلك الجامعات؟
أم أن هدف التوسع في أعداد الجامعات من أجل التوسع في التدريس الجامعي للطلبة فقط، بحيث تستقبل الجامعات معظم خريحي الثانويات العامة؟ وهل توسع الجامعات في قبول طلبة الثانوية يحقق أهدافا تنموية حقيقية؟
وهل يمكن لبعض الجامعات التساهل في النظرة إلى الأبحاث، بدعوى أنها جامعات غير بحثية؟ وهل لائحة وزارة التعليم العالي تميز بين الجامعات البحثية من غير البحثية؟
فإذا كان الهدف من بعض الجامعات التدريس فقط للإعداد لسوق العمل، فلماذا لا تصبح تلك الجامعات كليات مشابهة للكليات التقنية أو غيرها؟ فتحويلها إلى كليات بدلا من جامعات يحقق نفس الهدف، وهو التدريس وبتكاليف أقل من كونها جامعات.
ولست في هذا المقال أدعو إلى تحويل الجامعات إلى كليات مشابهة للكليات التقنية، لكن ما أقصده أن أهداف الجامعات يجب أن تكون واضحة، فالتدريس يمكن تحقيقه خارج إطار الجامعات كما هو معلوم، وبتكلفة أقل.
كما أنني أتساءل: إذا كان هدف الجامعات تدريسيا وتعليميا فقط، فكيف نضمن جودة الأبحاث الجامعية والمساهمة العلمية للجامعات؟
تجارب الدول والواقع يخبرنا بأنه من الصعب فصل جودة التعليم الجامعي عن اهتمام الجامعات البحثية. فمعظم الجامعات التي تتوافر فيها مراكز بحثية تتميز بجودة في التعليم. لذا فمن الصعب فصل جودة التعليم عن الاهتمام بالأبحاث.
لذا فأحد أسباب ضعف الأبحاث والإسهام العلمي للجامعات، أن البحث والنشر العلمي لا يشجع من قبل معظم الجامعات، وكأن البحث العلمي ليس من ضمن أولوياتها.
ثانيا: هناك لبس في النظر إلى مدخلات الجامعات ومخرجاتها والعمليات process. عديد من الجامعات يركز على المدخلات دون التركيز على الأهداف أو حتى المخرجات. فمثلا إذا كان الطالب محور العملية التعليمية، فإن الأبحاث والدراسات العلمية هي التي تثري المحتوى العلمي للجامعات، ومن ثم ترفع جودة المخرجات الجامعية. لذا لم تتجاهل لوائح التعليم العالي هذه الحقيقة، بدليل أنها ركزت على الإنتاج العلمي كأحد أهم معايير الترقية لعضو هيئة التدريس. فحسب المادة (27) من لائحة التعليم العالي فإنه يتم تقويم عضو هيئة التدريس المتقدم إلى الترقية على أساس 100 نقطة مقسمة على النحو التالي: 60 نقطة على الإنتاج العلمي و25 نقطة على التدريس و15 نقطة فقط على خدمة الجامعة والمجتمع. كما أن اللائحة ذكرت بصورة صريحة وواضحة أنه يجوز للجامعات وضع معايير تقييم المشاركة في خدمة الجامعة والمجتمع، بناء على توصية من المجلس العلمي وموافقة المجلس العلمي. فمضمون هذه المادة أنه لا يجوز للجامعات تعديل أو توزيع النقاط، خصوصا النقاط المتعلقة بالإنتاج العلمي أو التدريس. بل إن المادة (28) من اللائحة نصت على ألا يقل ما يحصل عليه المرشح للترقية عن 35 نقطة في مجال الإنتاج العلمي للترقية إلى رتبة أستاذ مشارك و40 نقطة للترقية إلى رتبة أستاذ.
بناء على ذلك، فمن المفترض لأي عضو هيئة تدريس أن يجعل البحث العلمي والمشاركة في المحافل العلمية أحد أهم أولوياته حسب اللائحة. لكن بعض الجامعات لا تنظر إلى البحث العلمي كأولوية لعضو هيئة التدريس، بدعوة أنها ليست جامعات بحثية. لذا تتم الترقيات بصورة غير علمية وشخصية. لكن هذه الجامعات نسيت أن اللائحة لا يمكن تجاوزها أو تغييرها إلا عبر إصدار لائحة أخرى.
لذا فالمشكلة لدينا ليست في وجود لوائح تحكم جودة التعليم والاهتمام بالعلم، ما يسهم في تحقيق تميز للجامعات السعودية، لكن المشكلة في تطبيق وتنفيذ اللوائح بصورة عملية. فالواقع يقول إن هناك تجاوزا في كثير من الأحيان أثر سلبيا في ضعف مخرجات بعض الجامعات. ولعل الوفرة المالية السابقة قادت بعض الجامعات الناشئة إلى الإسراع في التوسع في أعداد الكليات والأقسام على الالتزام بلوائح التعليم العالي. وللحديث بقية.