طريق سلك الحرير .. حلم أم حقيقة؟

منذ بدء الفترة الرئاسية الأولى للرئيس أوباما وهو يعلن منهجا جديدا للسياسة الأمريكية يهدف إلى التركيز على جنوب آسيا لتعزيز النفوذ الأمريكي هناك، والحد من توسع نفوذ الصين. وخلال هذه السنوات، وهذا الهدف يشكل أولوية كبيرة ومهمة على صلب اهتمامات الخارجية الأمريكية ما أثر بشكل كبير في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وأدى بدوره إلى تفاقم الصراعات فيها بفتح الطريق أمام قوى متطرفة تحمل طموحات توسعية بحتة كإيران للعبث في المنطقة قتلا وتخريبا. هذه الاستراتيجية الأمريكية ارتكزت على مزيج من القوة الناعمة باستخدام الدبلوماسية المكثفة لتعزيز التعاون مع دول منطقة جنوب شرق آسيا للحد من قدرة الصين على التوسع اقتصاديا في هذه المناطق، بتعزيز التكتلات الاقتصادية التي تعزل الصين عن دول المنطقة تجاريا. وكذلك باستمرار الولايات المتحدة في حماية طرق التجارة البحرية في منطقة جنوب بحر الصين وخصوصا مضيق ملكا الذي يعد البوابة الرئيسة لمصادر الطاقة التي تحتاج إليها الصين لتعزيز آلتها الصناعية حيث يعبر من خلاله 75 في المائة من الواردات النفطية للصين، وكذلك يشكل هذا المضيق البوابة الرئيسة أيضا لصادراتها إلى مناطق الشرق الأوسط وأوروبا وإفريقيا.
وقد تحدثت في مقال الأسبوع قبل الماضي عن واحد من أهم هذه التكتلات التي ينتظر أن يكون لها دور كبير في تعزيز التواجد الاستراتيجي للولايات المتحدة في منطقة جنوب شرق آسيا بتكوين منطقة الشراكة عبر المحيط الهاديTrans Pacific Partnership. كذلك، تعمل الولايات المتحدة على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي لتعزيز الشراكة مع دول أوروبا من خلال المفاوضات الحالية لتأسيس منطقة التجارة والاستثمار عبر المحيط الأطلنطي Transatlantic trade and Investment Partnership. وفي حال نجاح الولايات المتحدة في ذلك، فستضمن أن يستمر حلفاؤها التقليديون في أوروبا وحلفاؤها الجدد في آسيا في الدوران في فلكها الاقتصادي والسياسي أيضا، ما سيضمن المحافظة على التفوق الاستراتيجي لها على كل من الصين وروسيا. لكن هل الصين ستقف موقف المتفرج من هذا العمل الأمريكي الدءوب الذي يسعى إلى تقويضها في منطقة نفوذ استراتيجي ضيق ويضع اقتصادها أمام رحمة البحرية الأمريكية التي تجوب بحر الصين لحماية منافذ التجارة البحرية وخصوصا منفذ ملكا؟
الصين تعمل هي الأخرى على مواجهة هذه الاستراتيجية الأمريكية باستراتيجية أخرى، بدأها في عام 2013 الرئيس الصيني الحالي جين بين. ومحور هذه الاستراتيجية وهدفها الرئيس تهميش الدور الاقتصادي لمنطقة جنوب بحر الصين التي تمر بها الصادرات الصينية باستكشاف وفتح طرق أخرى تضمن مرور الصادرات الصينية في مناطق لا تخضع لتواجد البحرية الأمريكية بحجة حماية المنافذ البحرية العالمية، وبالتحديد عبر الدخول بشكل مباشر إلى المحيط الهندي والانتقال منه إلى بحر العرب ومن ثم إلى قناة السويس ثم إلى البحر الأبيض المتوسط. كذلك تعمل الصين أيضا على استراتيجية أخرى وهي تعزيز التعاون مع دول منطقة وسط آسيا التي لا يوجد فيها نفوذ للولايات المتحدة، حيث كانت تلك المناطق خاضعة تاريخيا لسيطرة الاتحاد السوفيتي سابقا، وترتبط استراتيجيا بروسيا الاتحادية. محور هذه الاستراتيجية الصينية ما يطلق عليه (طريق سلك الحرير) وهو طريق التجارة التاريخي الذي يمتد مسافة عشرة آلاف كيلو متر من الصين إلى مناطق وسط وشرق آسيا وأوروبا ومنطقة القرن الإفريقي. الفكرة الآن إعادة إحياء هذا الطريق مرة أخرى ليشكل بالتالي نافذة الصين على العالم بدءا من التجارة والاقتصاد وانتهاء بالسياسة والنفوذ الاستراتيجي في هذه المناطق.
لكن كيف يمكن إعادة إحياء هذا الطريق؟ وهل هو مجرد حلم صيني فقط؟ الحلم بالنسبة للصين قد يتحول إلى حقيقة، وبدلا من المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة في منطقة جنوب بحر الصين، اختارت الصين تبني استراتيجية أخرى قد تؤدي إلى تكاليف أقل بكثير من تكاليف أي مواجهة عسكرية، لكنها في الوقت نفسه تفتح آفاقا اقتصادية واستراتيجية واسعة للصين. والفكرة تتضمن مزيجا من الاتفاقات السياسية والتجارية على طول الخط مع الدول التي تشكل بالنسبة للصين فرصة للتوسع وفتح آفاق التعاون الاقتصادي، ومن هذه الدول تركمانستان، وكازاخستان اللتان تصدران ما نسبته 50 في المائة من احتياجات الصين من الغاز الطبيعي، وكذلك روسيا التي ستوفر الاتفاقات معها موارد طاقة كبيرة تحتاج إليها الصين. كذلك تتضمن هذه الدول ماينمار وباكستان التي ستفتح لها نافذة على المحيط الهندي وبحر العرب، واتفاقا مع الهند وأفغانستان وإيران التي ستساهم في نقل تجارة الهند من ميناء شابهار الإيراني إلى وسط آسيا. لكن كيف يمكن ربط هذه الطرق التجارية؟
هذا ما تعمل عليه الصين حاليا، بتمويل بناء مشاريع خطوط حديدية على طول هذا الخط في سعي إلى ربط طرق التجارة على طول الخط وانتهاء بأوروبا. والعملية بدأت منذ فترة ليست بالطويلة، لكنها تسير بوتيرة متسارعة، حيث انتهت الصين من بناء ما يقارب 16 ألف كيلو متر من الخطوط الحديدية منذ عام 2003، وتخطط حاليا لبناء خمسة آلاف كيلومتر أخرى من الخطوط الحديدية الفائقة السرعة بتكلفة تقارب 157 مليار دولار. وتخطط الصين لعمل المزيد من مشاريع البنية التحتية على طول الخط التجاري المستهدف وخصوصا مشاريع الخطوط الحديدية، ولذلك دعمت خطتها بتوفير ذراعي تمويل رعت إنشاءهما خلال العام الماضي. الأول البنك الآسيوي للاستثمار في مشاريع البنية التحتية برأسمال 100 مليار دولار، والآخر صندوق طريق الحرير برأسمال 40 مليار دولار. هو حلم صيني لكنه سرعان ما يتحول إلى حقيقة، وسيوجد فرصا، وسيعيد تشكيل تحالفات سياسية واستراتيجية كثيرة سأتطرق لها بالتفصيل في مقالات أخرى إن شاء الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي