رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


جائزة نوبل ومنهج اقتصادي مختلف

أعلنت الأكاديمية السويدية للعلوم والتكنولوجيا الشهر الماضي اسم الشخص الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد، التي يقدمها البنك المركزي السويدي كل عام. وفاز بالجائزة هذا العام أنقوس ديتون البروفيسور في جامعة برينستون، عن عمله في مجال الاستهلاك والادخار ومقاييس الثروة والفقر، حيث أسهم عمله البحثي في هذين المجالين في تحقيق إضافات علمية كثيرة أسهمت في تشكيل السياسات العامة في هذه المجالات في عدد من الدول وبالتالي خولته الفوز بهذه الجائزة المرموقة. وديتون هو أمريكي من أصل بريطاني، درس في جامعة كامبريدج وانتقل منذ عام 1983 للعمل كأستاذ في جامعة برينستون.
وما تميز به عمل ديتون تركيزه على تحليل بيانات الاستهلاك على المستوى الفردي، وليس على المستوى الكلي فقط، وذلك لفهم أكثر لدوافع الاستهلاك التي تسهم في تحريك الاتجاه الاقتصادي العام للاستهلاك والادخار. حيث إن النماذج الكلية التقليدية كانت تعتمد بشكل كبير على البيانات الكلية وذلك بسبب نقص البيانات في ذلك الوقت، بالتالي تؤثر في السياسات العامة التي تهدف إلى تحقيق الرفاهة للإنسان. وهذا بالتحديد العامل المهم والإضافة المميزة التي قدمها ديتون للاقتصاد، حيث لم يكن له اسم لامع يترافق مع نظرية محددة في هذه المجالات كما لزملائه الذين حصلوا على الجائزة في السابق. فإسهامه الرئيس كانت في وضع طرق تحليلية لدراسة وفهم دوافع الأفراد، ما أسهم في تعزيز السياسات العامة. وقد أسهم تطور برامج الحاسوب في تعزيز هذا التوجه، حيث تمكن من بناء نماذج اقتصادية تدرس الطلب على كل سلعة على حدة وبالتالي فهم سلوك الطلب على السلع المختلفة، ومن ثم إمكانية متابعة تأثير سياسة معينة في كل سلعة على حدة. وهذا أعطى تصورا أفضل لمدى تأثير السياسات في الفئات المختلفة من الأفراد، كمنح إعانة للمزارعين مثلا، وكيف يمكن أن ينتقل أثر هذه الإعانة من المزارع إلى المستهلك النهائي، حيث يمكن أن تستفيد فئات معينة من خط الإنتاج ومنافذ التسويق أكثر من غيرها، وقد يزول أثر هذه الإعانة عند وصولها إلى المستهلك النهائي.
إضافة إلى ذلك، انتقد ديتون بعض مقاييس الفقر، التي تحدد خط فقر مقاسا بدخل معين (كدولار معين في اليوم) لتحديد مقياس الفقر في كل دولة. وبدلا من ذلك، شجع ديتون على استخدام الاستبانات للقطاع العائلي بشكل واسع لفهم الظروف المختلفة لتحديد مستوى الثروة والفقر في كل دولة. فعلى سبيل المثال، أظهرت أبحاث ديتون أن النماذج الاقتصادية المختلفة تقلل من منافع ارتفاع الدخل على الفئات الفقيرة من المجتمع، حيث توصل إلى أن ارتفاع مستوى الدخل يسهم في زيادة معدلات السعرات الحرارية التي تستفيد منها تلك الفئات، وبالتالي فإن عدم أخذ ذلك في الاعتبار يؤدي إلى التقليل من المنافع المتحققة لتلك الفئات من زيادة الدخل. وفي المقابل فإن معدل استهلاك السعرات الحرارية يبدأ بالتناقص عندما يرتفع مستوى الدخل إلى حدود معينة. وهذه الطريقة في تحليل البيانات على المستوى الفردي تسهم في تقديم شواهد تدعم أو تدحض النظريات التي ترتكز على البيانات الكلية، حيث قد يظهر تباين في سلوك المتغيرات الجزئية، ما يفاقم الفجوة بين النظرية والواقع. وفي محاضرة لديتون في عام 2011 حول تجربته في علم الاقتصاد، أبرز ديتون إيمانه بأهمية الارتباط الأكبر بين النظرية والواقع من خلال النظر إلى الجوانب الجزئية في الاقتصاد بدلا من التركيز على النماذج الكلية فقط، حيث أشار إلى (أن النماذج الاقتصادية إن لم تكن تعمل في جميع الأحوال، فإنه ليس لدينا فكرة عما نتحدث عنه، وأن كل ما نعمله هو عبارة عن فوضى).
وفي سبيل التوصل إلى إجابات أكثر تفصيلا ودقة عن الجوانب التي يبحثها، تعاون ديتون مع المختصين في مجال الاقتصاد السلوكي، الذين يأتون بشكل أساسي من المختصين في مجال العلوم السلوكية المتفرعة من علم النفس، وعلى رأسهم دانيال كاينمان الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002، حيث يوضح أن السعادة ترتفع مع زيادة دخل الفرد إلى حد معين يبلغ 75 ألف دولار في العام، ثم تبدأ بعدها بالتناقص؟ وهي نتيجة تتناقض مع النتائج التي تتوصل إليها نماذج المنفعة التي تستخدمها النماذج التقليدية في الاقتصاد Main stream economics.
فوز ديتون بجائزة نوبل هو دليل على رغبة في أن يكون الاقتصاد أقرب إلى الواقع وأكثر علمية مما سبق. هناك جدل كبير بين أوساط المهتمين بجائزة نوبل حول جدوى منح الجائزة في مجال الاقتصاد، حيث لا يؤمن الكثيرون – خصوصا المتخصصين في العلوم الطبيعية – بأهلية هذا المجال لكونه مجالا غير علمي ولا يمكنه الاستناد إلى الجوانب التجريبية، هذا على الرغم من التقدم الكبير في استخدام النماذج الرياضية والقياسية في دعم النظريات الاقتصادية أو دحضها. لكن تعلق هذا العلم بجانب السلوك الإنساني بدلا من السلوك الفيزيائي أو الكيميائي للمواد كما في علم الفيزياء أو علم الكيمياء، يجعل من الصعوبة بمكان تصميم نموذج رياضي أو قياسي يفسر هذا السلوك بدرجة عالية تنطبق على جميع الحالات المشابهة. وبالتالي، فإن ذلك يضع الاقتصاد في معضلة دائمة للتعامل مع الحالات التي لا تنطبق في النظرية مع الواقع، وبالتالي – حسب رأي البعض – فإن ذلك يضعف من علمية مجال الاقتصاد في مقابل العلوم الطبيعية الأخرى. وفوز ديتون بهذه الجائزة كما أشرت يدلل على إدراك القائمين على الجائزة هذه المعضلة ما يفتح المجال لمزيد من العمل التجريبي لاختبار النظريات الاقتصادية بما في ذلك التركيز على الجوانب الجزئية بدلا من الكلية في الاقتصاد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي