التخطيط .. في حياة وزير التخطيط الأول
إن النجاح الهائل الذي حققته خطط التنمية دفع المملكة لتتبوأ أعلى المستويات في التنمية والتطوير، وأصبحت الجامعات السعودية والكليات والمدارس والمستشفيات والأندية الرياضية ودور الرعايا الاجتماعية وبناء الطرق ومحطات المياه والكهرباء، منارات حولت المجتمع السعودي إلى مجتمع عصري حديث. إن كل برامج ومشاريع التنمية حققت مستوى عاليا من الإنجاز حتى أصبحت المملكة في كثير من مشاريعها تنافس دولا سبقتها في مضامير التنمية والتنوير، وكان أهم ما يشغل رجل التخطيط الأول في المملكة هشام ناظر، هو تنويع مصادر الدخل، وقد وضع " تنويع مصادر الدخل " في مقدمة الأهداف الرئيسة لخطط التنمية.
إذا كان كل مسؤول يحب عمله كما كان هشام ناظر وزير التخطيط الأسبق - رحمه الله - لضمن تحقيق أعلى درجات النجاح وأعلى درجات الإنجاز. إن حب العمل والإخلاص له من أهم نعم الله على الإنسان، وهشام ناظر كان يعشق التخطيط حتى حينما يكلمك تحس بأنه يخطط الكلام، ويستخدم الألفاظ بحسابات دقيقة ومسؤولة. ينحدر هشام محيي الدين ناظر من أسرة عريقة من أسر مدينة جدة التاريخية، ولد في حارة الشام ودرس في مدارس الفلاح، ثم ابتعثه والده إلى كلية فيكتوريا في الإسكندرية، ثم أكمل الماجستير والبكالوريوس في جامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة مبتعثا من قبل وزارة التعليم العالي.
بعد أن أحيل إلى التقاعد في عام 1995 نظم مجلسا في بيته في حي الزهراء بجدة كل يوم أربعاء، وكانت تحضره صفوة مختارة من المثقفين، وشرفت بأن أكون أحد الحريصين على الحضور. وفي مجلسه ( المقعد ) تُطْرح أهم قضايا الشارع السعودي، وكانت الحوارات مفيدة ومتداولة بين زمرة من صفوة المثقفين المدركين والعارفين لمجريات الأمور، وحينما كنا نراجع تاريخ التخطيط في المجلس سألته سؤالا كان يلح علي وأنا طالب في كلية الاقتصاد في جامعة الملك عبد العزيز، قلت له : يا أبا لؤي ألا تعتقد أنكم استعجلتم في كثير من برامج التنمية في الخطة الأولى 1970، وأنكم عملتم خطة لنحو عشرين مليونا بينما كان عدد السكان 3.5 مليون نسمة؟
قال هذا صحيح ، ولكن كنا نعمل بطموح لا نهائي، لأننا كنا نريد أن نسابق الزمن، وكنا نعتبر أننا نخوض فرصة لن تتكرر بزيادة إيرادات الدولة أضعافا مضاعفة، وأنه يجب أن تتجه هذه الزيادة إلى بناء البنى التحتية لمجتمع سوف يبلغ 20 مليون نسمة في غضون سنوات قليلة قادمة، لأن معدل الزيادة في عدد السكان تعدى 5.4 في المائة سنويا تقريبا، وهو أعلى المعدلات في العالم يوم ذاك. وأضاف رجل التخطيط الأول يقول برؤية موضوعية : لو انتظرنا لفاتنا قطار الزمن وفاتتنا الفرصة النادرة والسانحة، والفرص لا تأتي إلاّ مرة واحدة. قلت له في أحد اللقاءات : هل كانت المعلومات في عام 1970 كافية لتصميم خطة التنمية الأولى أم إنها كانت مغامرة من اللجنة المركزية للتخطيط فأصدرت خطة تفتقر إلى المعلومات والأرقام؟ قال بسرعة وكأن السؤال أثار حفيظته : نعترف بأن المعلومات والأرقام في عام 1970 وما قبلها كانت شحيحة، ولكن آثرنا إصدار الخطة الأولى لأن تنفيذ الخطة الأولى سيعطينا أرقاما ومعلومات على جانب كبير من الأهمية لإصدار خطة التنمية الثانية بمعلومات وبيانات أكبر وأكثر، كذلك فإن الخطة الثانية أعطتنا المزيد من المعلومات والبيانات والأرقام لتصميم خطة التنمية الثالثة، وهكذا دواليك، أما إذا انتظرنا ولم نصدر الخطة الأولى حتى تأتينا المعلومات فإن انتظارنا كان سيطول كثيرا ويضيع الوقت وتضيع الفرص.
كنت حينما أفتح معه الحديث عن التخطيط أحس بأنني أتحدث إلى إنسان لا يمتهن التخطيط فحسب، بل يعشق التخطيط، ويكاد وهو يكلمني بأنه يخطط الأفكار، ويخطط الكلام، ويستخدم الأرقام بشكل مذهل.
إن خبرة هشام ناظر - يرحمه الله - في التخطيط بدأت في عام 1968 حينما عينه الملك فيصل بن عبد العزيز - رحمه الله - رئيسا للهيئة المركزية للتخطيط قبل تحويلها إلى وزارة للتخطيط في عام 1975، وفي عهده أصدرت المملكة ست خطط تنموية خمسية في غضون ثلاثين عاما، والآن نحن في الخطة الخمسية العاشرة.
في عام 1986 أصدر الملك فهد بن عبد العزيز - رحمه الله- أمرا ملكيا بتعيينه وزيرا للبترول والثروة المعدنية إضافة إلى وزارة التخطيط، وحينما تسلم وزارة البترول استخدم التخطيط في تطوير أداء وزارة البترول والثروة المعدنية، وأهم ثمار التخطيط في وزارة البترول والثروة المعدنية هو تحويل شركة أرامكو العربية الأمريكية إلى شركة سعودية بنسبة 100 في المائة، وكان هذا الحدث في ذلك الوقت من أهم الأحداث الداوية في سوق البترول، إذ إن المملكة كتبت بهذا المشروع بداية توطين شركات البترول في كل دول العالم المنتجة للبترول.
إن النجاح الهائل الذي حققته خطط التنمية دفعت المملكة إلى أن تتبوأ أعلى المستويات في التنمية والتطوير، وأصبحت الجامعات السعودية والكليات والمدارس والمستشفيات والأندية الرياضية ودور الرعايا الاجتماعية وبناء الطرق ومحطات المياه والكهرباء، منارات حولت المجتمع السعودي إلى مجتمع عصري حديث. إن كل برامج ومشاريع التنمية حققت مستوى عاليا من الإنجاز حتى أصبحت المملكة في كثير من مشاريعها تنافس دولا سبقتها في مضامير التنمية والتنوير، وكان أهم ما يشغل رجل التخطيط الأول في المملكة هشام ناظر هو تنويع مصادر الدخل، وقد وضع " تنويع مصادر الدخل " في مقدمة الأهداف الرئيسة لخطط التنمية. وكان في كل حواراته الإعلامية يطالب كل فعاليات المجتمع بالعمل من أجل بناء مجتمع المعرفة القادر على تنويع مصادر الدخل، وكان من أهم أهدافه في خطط التنمية تحويل الاقتصاد السعودي إلى اقتصاد المعرفة، وكان يقول دائما إن أهم مرتكزات اقتصاد المعرفة هو المعلومات والتوسع في استخدام التكنولوجيا، وقبل هذا وذاك إصلاح التعليم، وكان يرى أنه من دون إصلاح التعليم لن ندخل بوابة اقتصاد المعرفة. وكان في كل لقاءاته يؤكد أن اقتصاد المعرفة يتضمن جميع الأنشطة والعمليات الخاصة بصنع وإنتاج، وتسويق، وتوظيف، وتشغيل، واستهلاك، وإعادة إنتاج المعلومات والمعرفة، ولذلك كانت خطط التنمية التي صدرت في عهده تراهن على بناء مجتمع معرفي قادر على مضاعفة الإنتاج ومتمكن من البناء وتحقيق برامج التنمية المستدامة.