تربية «الرخاوة» أم تربية الحياة؟
في تفاعل المرء بمجتمعه، سواء في محيط العمل، أو في الشارع، أو في الأسواق، أو في أنشطة الحياة العامة، يلاحظ سلوكيات وتصرفات لو قدر له جمعها مع بعضها، لشكلت نسقا، يعبر عن كوامن تمثل خصائص نمت خلال مشوار الحياة وتأثرت بالمواقف والظروف التي مر بها الفرد، ومنها نمط الحياة الاجتماعي الذي يراه من حوله. شكاوى كثيرة في المجالس، من ضعف الإنتاجية في العمل، وتدني الدافعية، سواء في الحقل التربوي، أو في ميادين العمل بكل أنماطها، ومن حق المهتمين، وذوي الاختصاص أن يسألوا لماذا هذا الوضع؟
الإجابة عن السؤال تقتضي النظرة الشمولية التي لا تستثني أي عنصر من العناصر المحتمل تأثيرها في حياة الناس، وسلوكهم، واتجاهاتهم، ونظرتهم للحياة بشكل عام، ولعل سؤال شاب من الشباب كيف تقضي وقتك اليومي؟ تكشف لك إجابته أن وقته موزع بين النوم، والأصدقاء في الاستراحة، ومشاهدة الأفلام، أو الرياضة، ومع قيمة هذه الأشياء، بين فينة وأخرى، إلا أن غياب أشياء مهمة مثل القراءة وزيارة الأقارب، أو القيام بأعمال، وخدمات اجتماعية، أو أداء عمل إضافي يساعد على توفير سبل الحياة من البرنامج اليومي، أو الأسبوعي للفرد يمثل أمراً لافتاً يستدعي الوقوف عنده، والتأمل فيه.
القراءة التاريخية لمسيرة أي مجتمع تمثل مدخلا مهما لتفسير الظواهر، ومعرفة الأسباب الكامنة وراءها، ولو تأملنا فيما طرأ على مجتمعنا من تحولات خلال الأربعة عقود الماضية لألفينا أننا انتقلنا من مجتمع أقرب ما يكون إلى الانغلاق على نفسه، إلى مجتمع انفتح فجأة على العالم الخارجي بكل ما فيه من إيجابيات، وأخذ وأعطى، وإن كان الأخذ يفوق العطاء، خاصة ما يتعلق بالسلع والبضائع الاستهلاكية، حتى أصبح الاستهلاك أبرز خصائص المجتمع، بلا استثناء، ومن يزور الأسواق يرى العجب في تنوع البضائع، ومصادرها المتعددة، حتى لا نبالغ إذا قلنا إننا نستورد كل شيء ومن كل مكان في هذا العالم.
هل هذا الوضع خطير، ومؤرق؟ نعم، ليس لما ننفقه من أموال طائلة نضعها في حسابات شركات، ومصانع أجنبية فقط، بل لما أوجدته من روح تعشق حياة الدعة، والاسترخاء، والاعتماد على الآخر لينجز لنا احتياجاتنا بدءا من الشاي، والقهوة في المنازل، إلى الأثاث، والفرش، والملابس، ومنتجات الطعام الطازج منها، والمعلب. في قصص نمو وتطور المجتمعات قرأت أن بعضها يشتري السلعة من مصدرها، لكنه قبل استخدامها يقوم بتفكيكها، ومعرفة أسرار تركيبها، ومتطلبات صناعتها سواء فنية، أو مواد تدخل في تركيبها، وهذا ما أدى إلى تطور دول، كانت مغمورة، ومنسية، كالصين التي أصبحت عملاقا صناعيا كبيرا، وتتمتع باقتصاد قوي تنافس به دولا أخرى، حتى أصبحت بضائعها في كل بيت، وتصنف باعتبارها من أكثر الدول سرقة لأسرار التقنية.
كما قلت نستورد كثيرا من البضائع، مدنية، أو عسكرية من مصادر عدة، لكن هل فكرنا يوما من الأيام في استكشاف أسرار المواد التي نستوردها لنخرج من دائرة الاستهلاك إلى فضاء الإنتاج، أم حالة الاسترخاء الاجتماعي التي تسود المجتمع عامة تحول بيننا، وبين هذا الهدف؟
لتفسير هذا الركود يلزم التأمل في نمط الحياة، والتغيرات التي حدثت، فعاصفة مطاعم الوجبات السريعة، التي اجتاحت المدن والقرى، وأصبحت في كل ركن، وشارع، لا يمكن استبعاد تأثيرها، ولو بصورة غير مباشرة، إذ أوجدت حالة اتكالية جعلت الشباب والناشئة يفضلون قضاء الوقت مع الأصحاب، والأصدقاء، ومع الوقت يتحول السلوك إلى ما يشبه العادة، والإدمان ومع الوقت يتحول إلى نمط حياة مفضل، وإذا أضيف لهذا الاستراحات التي تحولت إلى ما يشبه المقر الدائم الذي يقضي فيه الشباب معظم وقتهم بعيدين عن الأهل، فهذا عامل إضافي يؤكد في عقل الشباب عدم قيمة الوقت، وانتفاء الحاجة إلى المثابرة، والجدية، والسعي الحثيث.
في كثير من الدول، يوجد التجنيد الإجباري، الذي يسهم في تشكيل شخصيات الأفراد، وإكسابهم خصائص لا بد منها لمواجهة تحديات الحياة التي لا يمكن التنبؤ بها، كما في الحروب، والكوارث الطبيعية التي تستوجب التحمل، والصبر، وتحتاج إلى مهارات لا يمكن تشكيلها مع حياة الدعة، والرفاهية، ولذا فإن عدم اعتماد التجنيد العسكري ليشكل محطة في حياة الفرد، من شأنه أن يكرس حياة الرخاوة، ما يفقد المجتمع جزءا من طاقاته في الظروف الصعبة، وحينها لا يمكن العودة إلى الوراء للتدريب، وإعادة التأهيل، فالظروف المفاجئة الصعبة لا تسمح بذلك. في عالم مليء بالصراعات، والاضطرابات حان الوقت لننتقل من تربية الرخاوة إلى تربية الحياة، مع ما تتطلبه من إيجاد الظروف، والبرامج التي تؤهل المجتمع بأفراده لمواجهة الظروف مهما كانت قسوتها.