يوم مع الحيوانات الوحشية في غابة بويندي الأوغندية

يوم مع الحيوانات الوحشية في غابة بويندي الأوغندية
نزل بويندي في غابة بويندي في أوغندا

عادة ما يستغرق الأمر أربع أو خمس ساعات على الأكثر لتحديد موقع عائلة الغوريلا في الغابات المطرية الجبلية الخضراء اللامعة غربي أوغندا. بالنسبة لي، استغرق الأمر 32 عاما. حين كنتُ طالبا في عام 1984، وجدت نفسي أركب السيارات عبر البلد الذي يقع في وسط إفريقيا والذي كان يعاني اضطرابات آنذاك، عندما سمعت قصة عن رجل خبير في تتبع الغوريلا الجبلية نادرة الوجود وبعيدة المنال. ربما كان هناك ما لا يزيد عن 400 منها مختبئة في أدغال من الصعب اختراقها تقريبا، والتي تعترض المشهد المحدد بتمدد بركاني على طول الحدود ما بين أوغندا ورواندا وما يسمى الآن الكونغو الديمقراطية.

استطعتُ بطريقة ما الوصول إلى المكان الذي يوجد فيه هذا الشخص الرائد في تتبع الغوريلا، أساسا من خلال كلام الناس، وكان قد وافق على هذه المهمة. اختفى اسمه من ذاكرتي قبل سنوات. مكثت في كوخه في إحدى الليالي وبدأنا رحلتنا في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، بوتيرة سريعة للغاية، جنبا إلى جنب مع مساعد لنا يحمل بندقية قديمة متهالكة. بعد عدة ساعات، دخلنا الغابة، والمرشد يشق لنا طريقا بواسطة ساطور كان يحمله.

سائح يتابع قطيعا من الأفيال في غابة بويندي ـ

في داخل الغابة المتشابكة، كنا نتبعه وهو يبحث باهتمام عن أية دلائل. كان يتوقف فجأة ليشتم الهواء، أو يتفحص الأرض وينظر في قمم الأشجار المعرَّشة. أحيانا، تومض عيناه. ثم ينظر نحوي باهتمام ويهمس "روث الغوريلا" أو "بيت الغوريلا" ثم نغوص بين أوراق الأشجار الكثيفة باستعجال متجدد. بعد قضاء يوم كامل من الانزلاق والمشي صعودا وهبوطا على جانب الجبل، ارتفعت الآمال ثم تلاشت وارتفعت مرة أخرى، ثم نطق الدليل تلك الكلمات المروعة "لا توجد غوريلا اليوم". عدنا أدراجنا بتثاقل إلى المنزل.

تلك التجربة، المبهجة وإن كانت في نهاية المطاف مخيبة للآمال، كان هدفها تشكيل وتجميع المادة الخاصة بأول مقال لي أنشره في صحيفة يومية، انتصار شخصي متواضع أدى إلى انطلاق حياتي في مجال الصحافة. كشفت في ختام ذلك المقال أنه، إذا حكمنا من خلال دفتر الزوار الخاص بذلك الدليل، كان معدل نجاحه أقل من جيد. وقد أفاد زائر تلو آخر أنهم كانوا غير محظوظين. كان عنوان المقال "الغوريلا غدا".

بعد مضي 32 عاما، أعود الآن إلى أوغندا لأنهي ما بدأته. تغير وجه البلد. في عام 1984 كانت أوغندا تعيش في خضم حرب غابات بشعة لأن القوات التابعة ليويري موسيفيني كانت تسعى للإطاحة بالرئيس آنذاك، ميلتون أوبوتي. تغلب موسيفيني في النهاية. في الكلمة التي ألقاها لتدشين فترة رئاسته، على غرار أسلوب كينيدي، وعد باتباع نمط قيادة جديد وتعهد بأنه لن يبقى في منصبه فترة طويلة. اليوم، تنتشر صوره في كل مكان. وكذلك هو موجود في كل مكان. إذ أنه لا يزال الرئيس.

عائلة من الغوريلا اجتمع أفرادها في الغابة الأوغندية نفسها.

قد لا تكون أوغندا بلدا ديمقراطيا أنموذجيا إلا أنها دولة مستقرة، بحسب معاييرها السابقة، آخذة في الازدهار. إذا كانت هناك كلمة واحدة لوصفها، بالنسبة لي، ستكون كلمة "خضراء". لم أصادف أبدا مشهدا أو منظرا طبيعيا أكثر جمالا، ولم أدرك قط وجود هذا العدد الكبير من درجات اللون الأخضر، بدءا من نبات السرخس وأوراق الهيليكونيا إلى الأشنات والكروم الملتوية. حتى أوراق شجر الموز المنتشرة في كل مكان تعطي ظلالا متعددة، بدءا من ساقها الصفراء والخضراء إلى أوراقها التي تشع نورا. إذا كان لدى شعب الأنويت في الإسكيمو 50 عبارة لوصف الثلج، لا بد أن لدى الشعب الأوغندي 100 كلمة لوصف اللون الأخضر.

أتذكر أنه في عام 1984 كنت أثب على الطرق الغادرة داخل حديقة الملكة إليزابيث الوطنية. وقبل ذلك قيل لي إنها كانت تعج بالحيوانات، حتى أفرغتها قوات عيدي أمين من الحياة البرية. خلال شهر، آنذاك، لم أر أي حيوان بري يستحق الكتابة عنه، إلا إذا أخذتَ في الحسبان اللقالق صعبة المراس ذات العنق اللغد وهي تهاجم، مثل الرجال الذين يرتدون بدلات رسمية، عبر أكوام من القمامة في كامبالا.

إلا أن أوغندا في عام 2016 تعتبر بلدا آخر، تعبره طرق صينية زلقة وينبض بالتجارة. وقد انتعشت أعداد الحيوانات. خلال رحلتي التي استغرقت أسبوعا –زرتُ حديقة الملكة إليزابيث الوطنية وحديقة غابة كيبالي الوطنية، قبل التوجه جنوبا بحثا عن الغوريلا - أرى قطعانا مهيبة من الفيلة يراوح قوامها من 30 إلى 40 فيلا، وأسودا تتسكع على فروع شجرة تين الجميز (طريقة للهروب من ذباب التسي تسي). بعد عودتنا من رحلة على متن قارب في قناة كازينجا، وهي امتداد للمياه مليء بتماسيح النيل، وجاموس الماء، وواحدة من أكبر تجمعات فرس النهر في العالم، يمر فهد أمام مركبتنا. توقفنا فجأة، وبعد بعض التأمل، تخبط الفهد قليلا بعد بضعة أمتار وبقي هناك، ينظف معطفه الرائع بلامبالاة تماما كأي قط منزلي. لكن الجبال التي يلفها الضباب، وتحيطها الغابات، هي التي تحبس الأنفاس لروعتها. تتسلق مركبتنا لتصعد عبر طرق ذات تربة حمراء تقود إلى جانب التل، مرورا بقطع من المدرجات حيث يزرع المزارعون الكسافا والذرة والذرة الرفيعة وصفوفا من شجيرات الشاي المزروعة بدقة. خلف التلال المتموجة بارتفاع حاد توجد مرتفعات حادة تشكلت بسبب ثوران البراكين. وهناك غابة بويندي صعبة الاختراق، بمساحة تقارب 330 كيلو مترا مربعا من الأراضي المحمية، حيث تعيش معظم أنواع الغوريلا الجبلية في أوغندا.

تتجمع الغيوم مثل الثلج الجاف في الوادي. وبينما كنت أتأمل عظمة منظر الجبال والغابة المطرية، يتكون في رأسي صوت ببطء: "زكريا". على الفور، أدرك أنه ذلك الاسم المنسي منذ زمن طويل للمرشد الذي كان معي قبل أكثر من 30 عاما، الذي أعاده إلى الوعي ذلك المنظر الطبيعي.

أقمت في مكانين في غابة بويندي - نزل بويندي ونزل كلاودز لغوريلا الجبل - وكلاهما كان مصمما بشكل جميل ويديره بكل إتقان موظفون يرتدون زيا موحدا، وكأنك في فندق كلاريدج لكن في الأدغال. خارج النوافذ التي تستخدم كأبواب، تطل علينا الغابة المطرية.

البشرى السارة هي أن هناك المزيد من الغوريلا اليوم، رغم أن أعدادها لا تزال ضئيلة بشكل يثير القلق. تم إعداد بويندي لتصبح متنزها وطنيا، محميا من التعدي على الأراضي الزراعية. وقد أشار أول تعداد أجري في عام 1997 إلى أن الغابة كانت تحوي 294 من غوريلا، وهو عدد كان قد يبلغ 408 قبل خمس سنوات. ومن المتوقع أن يكشف تعداد يجرى الآن عن وجود 500 غوريلا أو أكثر.

السبب في هذا الانتعاش المطرد هو أن تتبع الغوريلا يعتبر الآن تجارة كبيرة. يدفع السياح حاليا 600 دولار مقابل تصريح يخولهم زيارة الغوريلا لفترة زمنية محددة بدقة مقدارها ساعة. أعداد السائحين تقتصر على ثمانية أشخاص في اليوم الواحد. حتى مع ذلك، تحقق كل عائلة من عائلات الغوريلا مكسبا يوميا يصل إلى 4800 دولار من خلال رسوم التصاريح فقط. وفي بويندي، هناك نحو عشر عائلات متاحة للزيارة. (توجد نحو 20 من مجموعات الغوريلا البرية أيضا).

أفراد الغوريلا التي يمكنك زيارتها خضعت كلها لعملية استغرقت خمس سنوات وتعرف باسم "التعود على المكان"، يقوم خلالها المدربون بتعويدها تدريجيا على التعامل مع البشر. يمضي موظفو الحديقة ساعات يوميا وهم يركضون خلف الحيوانات حتى تتعلم في النهاية تلك القردة كبيرة الحجم كيفية التجاهل، أو على الأقل تحمل وجود البشر.

الأشخاص الذين يقضون ساعة مع الغوريلا غالبا ما يصفون تلك التجربة القصيرة باستخدام مصطلحات وعبارات دينية تقريبا. إذا كنت محظوظا، فإنني سأحصل على تجربة أفضل. في إطار برنامج جديد، يستطيع زوار بويندي قضاء أربع ساعات مع عائلة بيكينجي ـ التي تمر في منتصف عملية التعويد. وهذا يعني أن الغوريلا أكثر خجلا وأكثر وحشية ولا يمكن التنبؤ بسلوكها بشكل أكبر، رغم أن الزوار سيشعرون بالارتياح عندما يعلمون الحقيقة التي مفادها أن هذا الحيوان الذي يزن 500 رطل ويبلغ نطاق امتداد ذراعيه ثمانية أقدام ونصف هو في داخله حيوان مسالم.

غادرنا في الساعة السادسة صباحا، وسرنا نحو المرتفعات حتى وصلنا إلى جوانب التلال المدرَّجة لنقابل الجوالين. سيكون دليلي في الرحلة أوجستين موهانجي، البالغ من العمر 34 عاما ويرتدي لباس الفوتيك العسكري الشبيه بلباس الجيش. يرافقه اثنان من مقتفي الأثر يحمل كل منهما منجلا، ورجل آخر مسلح ببندقية لتخويف أي فيل يميل إلى العدوانية قد نصادفه في الغابة. كما أن هناك سائحا آخر، وهو محام من كاليفورنيا. بدأنا رحلتنا، وبعد ساعة من الصعود اللاهث عبر التلال وصلنا إلى ارتفاع بلغ نحو ألفي متر، ودخلنا إلى الغابة التي "من الصعب اختراقها".

كان الداخل أكثر قتامة وأبرد تحت ظل السقف الناشئ عن فروع الأشجار. والأرض في الأسفل اسفنجية من كثرة ما فيها من أوراق الشجر. يقول أوجستين إن هناك ما لا يقل عن 21 فردا من حيوان الغوريلا في العائلة الواحدة، ما يجعلها جماعة كبيرة الحجم. ربما يكون هناك المزيد، على اعتبار أن الكثير من أفراد المجموعة كانوا لا يزالون يشعرون بالخجل من البشر. ولدى العائلة فرد واحد من الغوريلا الجبلية، روشينجا، والتي يترجمها أوجستين على أنها "من يقوم بتحطيم الغابة". ويقول إنه أكبر حيوان رآه في حياته - "وحش".

يعرف أوجستين أين كانت الغوريلا بالأمس، لذلك يبقى الآن مسألة البحث عن المكان الذي قضت فيه الليلة الماضية. يقول: "نحن نبحث عن آثار روثها، أو أي كسر في الغطاء النباتي وبقايا الطعام لنحدد الاتجاه الذي تمشي فيه". بمجرد أن نحدد موقع عشها، لن تكون الغوريلا التي لا تتحرك عادة أكثر من كيلومتر واحد في اليوم، بعيدة عنه.

فجأة نسمع صوت الراديو. يقول أوجستين: "يخبرني الذين يقتفون الآثار أن بإمكانهم سماع الحيوانات". لم تمض فترة طويلة حتى كانت هناك رائحة بول قوية واستطاع رؤية الأعشاش - وبسرعة قام بتجميع أكوام من الأغصان المكسورة الموجودة على الأرض "مثل الفرشات الزنبركية". تتصاعد مستويات الإثارة. ونمضي قدما بصمت. الصوت الوحيد هو صوت المناجل. فجأة، هناك صوت يشبه فرقعة المدفعية ـ يكسر الأغصان. هناك، على بعد خمسة أو ستة أمتار فقط، نرى روشينجا، ربما واحد من أكبر حيوانات الغوريلا الجبلية الحية، مستلقيا على ظهره، ويقوم بتجريد غصن من الأوراق. وأصابعه التي تشبه في حجمها حجم أصابع الموز تقبض على الكروم والأغصان. عندما يقفز متثاقلا، مع تلك المشية التي تشبه القردة بشكل لا ريب فيه، يتموج ظهره الفضي بالعضلات.

يتوقف مرة أخرى ويتكئ على سفح الجبل مثل بوذا في عرشه الأخضر. يجلس المقتفون، كخدام أمام سيدهم، وهم يطلقون همهمات استسلام. يلتقطون أوراق الشجر، ويضعونها في أفواههم ويمضغونها. يشرح أوجستين ذلك قائلا: "نحن نخبره بأننا ودودون جدا ونفعل ما يفعله". ينظر إلينا ذلك الحيوان ذو الظهر الفضي بازدراء على ما يبدو، لكنه يتحمل وجودنا. عندما يحك جلده، يصدر ذلك صوتا يشبه شخصا يمضغ الجزر.

يقول أوجستين إن عمر روشينجا يراوح بين 25 و30 عاما، وهو في أوجه. في النهاية سيواجه تحدي التفوق، وفي حينها، إذا تعرض للخسارة، سيحتاج إلى أن يستسلم أو أن يغادر المجموعة. بعد فترة قصيرة، كان هناك ثوران من الخشب المفتت وقفز فجأة، ليندفع داخل أكثف قسم في الأشجار التحتية والأوراق.

تســــــــــــــــلقنا وراءه. في التشابك المستحيل للأشجار المحيطة بنا من كل جانب، يقودنا مقتفو الأثر إلى ما كان يبدو وكأنه حافة سفح الجبل وإلى قمم الأشجار نفسها. كانت الأغصان زنبركية تحت أقدامنا ومن المستحيل أن تعرف أين الأرض - على بعد عدة أقدام أو عشرات الأقدام إلى الأسفل. فقط نرى منظر المقتفين أمامنا، وهم يثبون على طول هذا الغطاء النباتي مثل البطلين الطائرين في فيلم "النمر الرابض والتنين الخفي"، ندرك أن الوضع آمن ويمكننا الاستمرار. قلت في نفسي إن الأمر يشبه أن تكون غوريلا ليوم واحد.

بعد فترة قصيرة، وجدنا أفرادا آخرين من العائلة. وكل ما حولنا هو صوت القرقعة والتكسير والمضغ. لا بد أن هناك ما بين ثمان إلى تسع من أفراد الغوريلا، بما في ذلك أم وطفل، عمره أسبوع فقط ولا يحمل اسما بعد. تتحرك إحدى إناث الغوريلا صوبي وتواصل المسير. بالمقارنة مع روشينجا، تعتبر صغيرة الحجم، لكنها تزن ما يقارب 300 رطل. وقد حازت على انتباهي تماما. اتكأتُ على شجرة وتقترب مني على بعد بضعة بوصات فقط من ساقي.

توقف أفراد الغوريلا عن التحرك وأمضينا بضع ساعات ونحن نراقبها وهي تلعب وتتأرجح وتتعارك.

اختفى الحيوان الكبير وظننتُ أننا لن نراه مرة أخرى. لكن كان لدى مقتفي الآثار أفكار أخرى. اقتحموا الأوراق الكثيفة وطلبوا منا المتابعة. أنا أكتب شيئا ما في دفتر ملاحظاتي عندما يصدر فجأة صوت هدير قوي وصراخ يشبه صوت الكلب. بحثت لأرى روشينجا وهو يتظاهر بالهجوم علينا لإخراجنا من بين ألياف الأوراق. حتى مقتفي الأثر الخبير عاد إلى الخلف من شدة الذعر. تمر علينا الساعات الأربع التي قضيناها هناك وكأنها حلم يقظة.

يقول أوجستين إن علينا الذهاب. أثناء العودة، فكرت في زكريا، دليلي في عام 1984 الذي، كما علمت من الحراس، توفي قبل ست سنوات. كشخص رائد في مجال اقتفاء الآثار، لا يزال يحظى بالاحترام في تلك الجبال. صحيح أنني احتجتُ إلى سنين كثيرة، لكن بفضله، تمكنت من رؤية الغوريلا اليوم.

الأكثر قراءة