هل تتحكم الخوارزميات بمصير العالم؟
يمر عالمنا في تطورات مذهلة، وأكاد أجزم أن أي خيال علمي مهما كانت قوة مخيلة كاتبه لما استطاع التحولق حول ما يهز الدنيا من اختراعات تكنولوجية خارقة، خصوصا في مضمار الذكاء الاصطناعي.
صحيح أننا ننبهر بكل حقبة صناعية جديدة ونحاول التأقلم معها، ولكن في السابق كانت الحقب لا تستغرق عقودا فحسب، بل قرونا كي تزيحها حقبة جديدة.
الآلة الكاتبة (الطابعة اليدوية) كانت معنا لعقود طويلة حتى تخلينا عنها بظهور الكيبورد أي لوحة المفاتيح الإلكترونية التي ما زلنا نستخدمها، بيد أن وظائفها آخذة في التطور من طور إلى طور بالكاد لسبعيني مثلي اللحاق بها.
وانظر إلى الأجيال المتلاحقة من الأجهزة الرقمية الذكية. كنا في السابق ننتظر عقدا أو أكثر لظهور الجيل الجديد، أما الآن، فما أن يظهر جهاز ذكي، حتى يُزاح من قبل آخر أكثر منه ذكاء في غضون شهر أو شهرين.
والثورة المذهلة -التي نحن شهود لها ومتلقون ومستخدمون لما تجتره من اختراعات- لها مشترك واحد. وآمل أن يتوقف القارىء هنيهة محاولا الوصول إلى ما يجمع الأجهزة الذكية التي تحتلنا وحياتنا في عالمنا الخوارزمي هذا.
في هذا العمود تحدثنا عن اللغة والخطاب وتحليل الخطاب ببعض الإسهاب. اللغة جوهر الخطاب، ولكنها لا تشكله وحدها. كل شارة أو رمز أو سيماء أو شكل أو لافتة تحمل أكثر من معنى، ونحن نتفاعل معها بطرق عديدة انطلاقا مما نحمله من ثقافة، وما تفرضه علينا البيئة التي نعيش فيها من طرائق للتواصل مع بعضنا بعضا، ومع الرموز التي حولنا.
والذكاء الاصطناعي يتعامل أساسا بمعادلات تستند على تراتب الشارات (خوارزميات)، ورحم الله محمد بن موسى الخوارزمي الذي استنبط أول خوارزمية في العالم، مدشنا علما قائما في ذاته يستند إلى مجموعة خطوات من الرموز (أرقام) ذات تسلسل منطقي لغرض حل مشكل ما.
لم يدر في خلد العالِم العربي المسلم الجليل هذا أن سيأتي يوم تقود فيه خوارزميته العالم: اليوم الذي يتحكم بالخوارزميات هو الذي يتحكم بمصير العالم، وأظن أننا والخوارزمية سنعيش معًا إلى أن يأتي الزمن -وأظنه ليس بعيدا- الذي تتلاعب فيه الخوارزمية بمصيرنا وعالمنا معا، أي بدلا من أن يكون البشر هم الذين يستنبطون ويطوعون الخوارزميات لخدمتهم، تقوم الخوارزميات بالتحكم بالبشر وتطويعم وخورزمتهم لخدمتها.
هل أتاكم حديث "نماذج أو حلول اللغة الكبيرة" أي Big Language Solutions؟ شركات ناشئة لم يمض عليها عدة أعوام تقدم حلولا لغوية كبيرة. آخر التقارير تشير إلى أن القيمة السوقية لهذه الشركات تقترب من 100 بليون دولار وهي في نمو مضطرد.
قوة الذكاء الاصطناعي المتمثلة في تشات جي بي تي 4 تمنح الآن هذه الشركات كل ما تحتاجه لاختراع أجهزة آلية في إمكانها الدخول إلى مقالي هذا مثلا من خلال خانة التعليقات (المقفلة حاليا في جريدتنا) وتنتج من اللغة، وكأنها إنسان حقيقي وتتحداني إن أرادت ذلك، لا بل قد تجعل مني أضحكوة إن كانت في يد مؤسسة أو حتى شخص يرى في ما أكتبه لا يتماشى مع ميوله.
واللغة الكبيرة التي صارت متاحة لهذه الأجهزة، البعض يطلق عليها "الذبات الإلكتروني"، ولكنها ما هي إلا بوتات bots (اختصار لكلمة robots) مبرمجة كي تحاكي البشر في إنتاج اللغة بطريقة ليس في إمكان أي إنسان أو حتى مجموعة من الناس منافستها في فرض الأطر الخطابية الخاصة بها عليهم.
لن تبقي اللغة الكبيرة أي معنى لنا للعيش، لأن خوارزميتها هي التي ستحدد لنا معنى حياتنا.
وانظر ماذا حل بلغتنا، حيث صار لقتل الأطفال ولو بعشرات الآلاف معنى يتقبله الناس والحكومات، وأضحى تدمير مجتمعات ومدن أمرا يتقبله البشر، وأخذنا نتباهى بالقنابل الكبيرة ذات الطاقة التدميرية الهائلة ونبتهج عند إلقائها على مناطق مكتظة بالسكان بدلا من إدانتها، هكذا تتحكم فينا اليوم اللغة الكبيرة، لغة الإنسان الآلي الذي لا ولن يمل عن الإنتاج الكثيف للكلام وبكميات ضخمة وفي نمط محدد سلفا لخدمة صاحبه مهما كان الشر الذي ينطق به.
هل سيبقى معنى للعيش إن استولت اللغة الكبيرة التي تنتجها الماكينة على لغتنا؟