الذهب وتحطيم الأرقام القياسية

 تاريخ البشرية يشهد على أهمية الذهب كملاذ آمن في أوقات الأزمات الاقتصادية والتوترات الجيوسياسية. في الأشهر الأخيرة، خاصة منذ اندلاع الصراع في الشرق الأوسط في أكتوبر 2023، شهد الذهب قفزة كبيرة في الأسعار، حيث ارتفعت من نحو 1800 دولار للأونصة إلى أكثر من 2400 دولار في أبريل 2024، بزيادة نسبتها 33 %. الصراعات الجيوسياسية التي تضرب العالم وعلى رأسها الحرب في الشرق الأوسط وامتدادها للتأثير في ممرات التجارة العالمية وحركة الشحن مثل البحر الأحمر وصولا إلى الأزمة الروسية - الأوكرانية بجانب التوترات بين الصين والولايات المتحدة بسبب تايوان تسهم في تعزيز مكانة الذهب.
إضافة إلى أثر التوقعات بقيام البنوك المركزية بخفض مستويات الفائدة بداية من النصف الثاني من 2024 الذي دفع مستويات الطلب على الذهب إلى الارتفاع واستمرار الأسعار في الصعود وكسر الأرقام القياسية منذ بداية 2024، حيث يؤدي خفض الفائدة إلى انخفاض عوائد السندات الحكومية وبالتالي تحول أنظار المستثمرين والصناديق نحو بدائل أخرى تدر عوائد أعلى كالذهب.
كما ارتفعت مشتريات المستهلكين الأفراد من الذهب خلال الربع الرابع من 2023 بنسبة 24 % مقارنة بالربع الثالث من نفس العام مسجلة 935 طنا مدفوعة بالصين والهند، اللتين شكلتا مجتمعتين نحو 55 % من إجمالي حجم الطلب العالمي وفقا لبيانات مجلس الذهب العالمي. حيث ارتفعت مشتريات الهند بنسبة 68 % لتسجل 266 طنا، بينما ارتفعت مشتريات الصين خلال نفس الفترة بنحو 28 % لتسجل 246 طنا. الارتفاع مدفوع بالتحوط وحفظ مدخراتهما من التقلبات الكبيرة التي شهدها الاقتصاد العالمي في العامين الأخيرين، وذلك بعد ارتفاع التضخم لمستويات قياسية وانهيار العملات المحلية مقابل الدولار. أما في الصين فقد أدت حالة الانكماش الاقتصادي وأزمة العقارات وسوق الأسهم الهابطة إلى فقدان الأفراد ثقتهم بالاقتصاد، وهو ما دفعهم لزيادة مشترياتهم من الذهب كأصل بديل وأداة للتحوط.
العامل الأخير لرفع الأسعار كان بقيادة البنوك المركزية وبالأخص في الأسواق الناشئة، ففي 2023 وصلت مشتريات البنوك المركزية من الذهب إلى أكثر من ألف طن، وقد قاد البنك المركزي الصيني عمليات الشراء، حيث وصلت مشترياته خلال 2023 إلى 225 طنا، وخلال أول شهرين من 2024 استمرت الصين في عمليات الشراء وذلك بنحو 22.1 طن. الرغبة الكبيرة من البنوك المركزية لتعزيز احتياطياتها من الذهب في الشهور الأخيرة وبالأخص منذ اندلاع الأزمة الروسية - الأوكرانية يمكن إرجاعها إلى عديد من الأسباب، الأول هو رغبة عديد من الدول في تنويع احتياطياتها بعيدا عن الدولار، واستخدام الذهب كأداة للتحوط من الصدمات التي تصيب الاقتصاد العالمي على غرار ما تم في عام 2022 بعد رفع الفيدرالي أسعار الفائدة وانهيار العملات مقابل الدولار، الثاني هو رغبة الدول وبالأخص المنافسة للولايات المتحدة في تجنب العقوبات الأمريكية مستقبلا، حيث يستخدم الدولار كأداة رئيسة للعقوبات الأمريكية على غرار ما تم مع روسيا، لذلك تلجأ الدول وعلى رأسها الصين إلى التخلي عن الدولار مقابل رفع حيازاتها من الذهب.
مستويات الأسعار المرتفعة دفعت البنوك الكبرى في العالم للتفاؤل تجاه الذهب في 2024، بنك سيتي غروب توقع أن تصل أسعار الذهب إلى ثلاثة آلاف دولار للأونصة خلال الشهور الستة إلى الـ18 المقبلة. في المقابل توقع بنك غولدمان ساكس أن يصل سعر الذهب إلى 2700 دولار بنهاية 2024، فيما توقع بنك يو بي إس غروب أن يصل بنهاية 2024 إلى 2500 دولار، أسباب التفاؤل هي استمرار التوترات الجيوسياسية وارتفاع مشتريات البنوك المركزية والمستهلكين وبالأخص في الصين.
في الختام فإن توجهات الذهب المستقبلية تبدو متفائلة على المدى القصير بسبب العوامل السابق ذكرها، لكنها تظل عرضة للتقلب والتراجع بين ليلة وضحاها، فإذا انخفضت التوترات الجيوسياسية بعد الوصول إلى اتفاقيات للحل السلمي في مختلف المناطق فإن ذلك سيسهم في هدوء الأسواق وبالتالي تراجع مستويات الأسعار. وبعد إعلان بيانات التضخم في الولايات المتحدة وفي حال استمرار ارتفاعها في الشهور المقبلة فإن ذلك قد يجبر الفيدرالي على تأجيل البدء في خفض الفائدة وبالتالي صعود الدولار كبديل وملاذ آمن ينافس الذهب. وفي حال استعادة الاقتصاد الصيني عافيته والسيطرة على أزمة العقارات فإن ذلك قد يدفع الأفراد إلى تنويع محفظتهم بعيدا عن الذهب، الأمر الذي يؤثر في الطلب العالمي والأسعار. 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي