من الدرعية إلى الرياض.. مسيرة 3 قرون من الولاء والانتماء
كشف المؤرخ البريطاني الكبير إريك هوبزباوم أن "الاختلاق" صنع كثيرا من جوانب التاريخ الغربي المجيد، فحاجة الدولة الحديثة هناك إلى مشترك جماعي (سياسي، ثقافي، لغوي) ضرورة ملحة لتحقيق الانسجام وضمان الاستمرارية. بخلاف واقع الحال في الشرق، حيث يحفل التاريخ بهذه المقومات التي يحدث أن يطالها النسيان أحيانا، على غرار واقعة تأسيس الدولة السعودية الحديثة، قبل ثلاثة قرون، التي قضى الأمر الملكي السامي للملك سلمان بن عبدالعزيز، قبل سنتين، بإحياء ذكراها في 22 من فبراير كل عام.
إعادة بعث أمجاد التاريخ، بتحويل كبرى أحداثه إلى مناسبات وطنية يحتفى بها، نابع من إيمان قيادة السعودية بأن الطريق نحو المستقبل قائم على إرث وسؤدد الماضي. فإفراد حدث "التأسيس" بيوم وطني، قرار حكيم من شأنه تعزيز بناء الذاكرة التاريخية، بسرد الوقائع وتثبيت الحقائق، وقبل ذلك إنهاء سرديات شائعة طالما تعامل مع تاريخ الدولة / السعودية بانتقائية واختزالية منحازتين، في تجاهل مطلق لشواهد التاريخ ومسلمات الجغرافيا.
يوم التأسيس مناسبة للنبش في أغوار التاريخ، بحثا في خبايا وتفاصيل سيرة التحول من دولة المدينة، وهو مفهوم يوناني قديم يحيل إلى المدينة التي نشأت ثم ما لبثت أن تطورت لتؤسس دولة، والقصد هنا مدينة الدرعية التي أسسها الأمير مانع بن ربيعة المريدي، عام 1446، إلى الدولة السعودية (ذات الحكم المركزي)، بالمعنى الحديث للدولة القومية، على يد الإمام المؤسس محمد بن سعود عام 1727، أي قبل 65 عاما من تأسيس الجمهورية الفرنسية في بلاد الأنوار (1792)، وقبل نصف قرن، من إعلان الآباء المؤسسين، نشأة الولايات المتحدة الأمريكية (1776).
خلافا لكثير من الدول، تكتنف قصة تأسيس السعودية سمات متفردة، فالسعودية كما سبقت الإشارة، لم تقم على أنقاض دولة أخرى، بل مثلت رحلة انتقال أو بالأحرى تحولا، مثلما هو حال الدول العريقة، من المدينة إلى الدولة، مستصحبة في ذلك العمق الحضاري والإرث الثقافي والرصيد السياسي والاندماج الاجتماعي، ما أسهم في تشكيل معالم الهوية السعودية مبكرا، التي يرجع إليها الفضل في تيسير قدرة الدولة على بسط نفوذها في الجزيرة العربية، بعد أزيد من عشرة قرون من الاضطراب والفوضى وانعدام الأمن وغياب الاستقرار.
بواكير الانتماء إلى هذه الرقعة الجغرافية (الأرض والأهل واللغة والثقافة) شكل مفارقة أخرى، تجسد في ارتباط مسيرة الدولة في السعودية، تأسيسا وتوحيدا، بالمتطوعين والمتطوعات، فالمصادر التاريخية تجمع على أن إقامة الدولة، كان بأيدي أفواج من هؤلاء، ممن آمنوا بفكرة وجدوا أنفسهم جوهرها، فلم يترددوا في التعبير عن ولائهم لقائدها. سمة لا كانت ولا تزال تشكل إلى اليوم، ميزة نسجت أواصر علاقة القيادة بالشعب، في المملكة العربية السعودية. وبفضلها ضمنت دولة آل سعود الاستمرارية لثلاثة قرون، رغم مساعي وأدها، أكثر من مرة، قبل أن تعاود النهوض مجددا بقوة وبأس شديدين.
احتفاء أبناء وبنات السعودية بذكرى التأسيس فرصة للتذكير بالمحطات التاريخية ومواقف الزعماء الذين صنعوا مجد الدولة، ممن تسير البلاد على خطاهم من جميل إلى أجمل. فإذا كانت الدرعية أمس مستقرة أمنيا ومكتفية زراعيا ورائجة اقتصاديا... فالسعودية اليوم لاعب كبير في السياسة والاقتصاد والأمن والرياضة... ليس محليا فقط، وإنما على الصعيد الدولي.