متى ستهدأ ترسانة البنوك المركزية؟

دفعت البنوك المركزية ثمنا باهضا بتأخر تصديها للتضخم خلال 2021، ظنا منها أنه ليس إلا ظاهرة عابرة سرعان ما ستزول، إلا أنها اكتشفت مع مطلع 2022 خطأ تقديراتها، وأنها أصبحت في مواجهة تسارع معدلاته الصاعدة عالميا، ووصولها إلى أعلى مستوياتها خلال أربعة عقود خلال 2022، لتبدأ باستخدام ترسانة أدواتها النقدية، على رأسها رفع أسعار الفائدة بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "كبير المتأخرين"، حيث حول أكبر 51 بنكا مركزيا العالم باتخاذ 386 قرارا برفع أسعار الفائدة خلال العامين 2022 و2023، الذي مثل أعلى وتيرة في تاريخ الاقتصاد المعاصر لاستخدام البنوك المركزية لترسانتها من الأدوات النقدية.

تحت هذه المتغيرات، تباطأ التضخم عن معدلاته القياسية التي سجلها خلال 2022، حيث بلغ التضخم العالمي وفقا لبيانات صندوق النقد الدولي 8.7 في المائة خلال 2022، وبلغ 6.9 في المائة خلال 2023، ويتوقع الصندوق الدولي أن يستقر عند 5.8 في المائة خلال العام الجاري. رغم هذا التباطؤ في معدلات التضخم طوال عام ونصف مضى، فإنها لم تصل بعد أو حتى تقترب من مستوياتها المستهدفة عند 2.0 في المائة، بل إنها أظهرت سلوكا عنيدا بنهاية ديسمبر 2023 بعودتها للارتفاع مجددا في غالبية الاقتصادات، حيث ارتفع إلى 3.4 في المائة في الولايات المتحدة، وارتفع إلى 2.9 في المائة في منطقة اليورو، في الوقت ذاته الذي أظهرت مؤشرات النمو الاقتصادي وأسواق العمل مستويات إيجابية، على عكس كثير من التوقعات بركود الاقتصاد وارتفاع البطالة، وهو الأمر الذي لم يحدث حتى تاريخه.

أمام تلك التطورات الأخيرة، هدأت كثير من الأصوات بقرب تراجع أسعار الفائدة، وقذفت بتوقعاتها تلك من الربع الأول من العام الجاري إلى النصف الثاني منه، في الوقت ذاته أظهرت أغلب البنوك المركزية حول العالم بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ثباتا على سياساتها النقدية المتشددة، وقد يمتد ذلك الثبات ما امتدت الأوضاع الراهنة للمؤشرات الأساسية للاقتصادات والأسواق، إلا إذا حدث ما لم يكن في حسبان أي من الأطراف ذات العلاقة، إما بصعود ساخن أكبر للتوترات الجيوسياسية عالميا، أو بسقوط الأسواق في موجة تصحيحية قاسية، أو لأي طارئ مشابه لما حدث خلال 2020.

حتى في ظل ما تقدم من تقديرات وتوقعات أعلاه، فالأقرب أن البنوك المركزية ستكون أكثر تأهبا وحذرا تجاه تداعياتها المحتملة على الاقتصادات والأسواق، بمعنى أنها لن تكرر سياساتها التحفيزية المفرطة التي اتخذتها خلال 2020، خاصة أن الاقتصاد العالمي يواجه مخاطر كبرى من الارتفاع القياسي لإجمالي الديون على الحكومات والشركات والأسر، وتجاوزه لمئات التريليونات من الدولارات بعد الجائحة العالمية كوفيد-19 بوتيرة قياسية، فاقت كثيرا مستويات ما قبل الجائحة، ويأتي هذا الحذر من السقوط في مصاعب وأزمات اقتصادية ومالية أكبر بكثير مما شهده الاقتصاد العالمي إبان الجائحة العالمية.

لأن الخيارات المتاحة، والقدرة على تحمل التحديات والمخاطر تقلصت كثيرا أمام البنوك المركزية خلال الأعوام الأخيرة، مقارنة بما كان متاحا منها فيما قبل الجائحة العالمية، فلن تتخلى تلك البنوك عن ذخيرتها وترسانتها كما ترنو إليه رقاب كثير من المستثمرين، وقد يستمر ذلك الاستعداد القاسي على الأسواق والمستثمرين فترة أطول بكثير مما يتوقعه القاطنون في تلك الأسواق، وهو الأمر الذي وإن شكل ضغوطا اقتصادية ومالية في جوانب عديدة منه، إلا أنه بالتأكيد يمثل جدارا صلبا في وجه ما هو أعنف وأقسى من تلك الضغوط المرحلية على الأسواق. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي