الممرات البحرية الخضراء .. شركات الشحن بين خطر ارتفاع التكاليف والإفلاس

الممرات البحرية الخضراء .. شركات الشحن بين خطر ارتفاع التكاليف والإفلاس
الممرات البحرية الخضراء .. شركات الشحن بين خطر ارتفاع التكاليف والإفلاس

يمر الشحن البحري عبر المحيطات بلحظة تاريخية مفصلية، فالصناعة ككل تشهد أكبر تحول في استخدام الطاقة منذ أن تحولت من الفحم إلى النفط قبل عقود، لكن عملية التحول إلى الوقود الخالي من الكربون أو ما يعرف بالوقود المنخفض لا تزال تتسم بكثير من الفوضى.
وينقسم أصحاب السفن حول نوع الوقود الذي يجب أن يكون معيار الصناعة الجديدة، وسط تساؤلات مشروعة من قبلهم حول متى سيكون في قدرتهم استرداد الاستثمارات التي سيقومون بها لتحقيق الأهداف البيئية التي فرضتها الحكومات عليهم.
وتبلغ تكلفة الاستثمارات التي يجب أن تتضمنها السفن الجديدة نتيجة التعديلات المدخلة لجعل السفن ملائمة لأنواع الطاقة الجديدة المستخدمة والتغيرات التي ستجرى في البنية التحتية للموانئ، لتتماشى مع السفن الجديدة، وفقا لبعض التقديرات، ثلاثة تريليونات دولار على مدى العقود القليلة المقبلة.
وتستخدم معظم السفن التجارية العابرة للمحيطات في العالم البالغ عددها 60 ألف سفينة، زيت وقود ثقيل شبيه بالقطران، ووفقا للمنظمة البحرية الدولية وهي الجهة العالمية المنظمة لهذه الصناعة، فإن الشحن البحري في العالم مسؤول عن نقل ما يقرب من 90 في المائة من البضائع المتداولة عالميا.
وفي الوقت ذاته تتحمل الصناعة المسؤولية عما يقرب 3 في المائة من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية سنويا.
لكن لماذا تصاب شركات النقل البحري خاصة الشركات الغربية العملاقة التي تتحكم في الصناعة بالقلق عند الحديث عن تحولها إلى أنواع أخرى من الوقود؟ ألا تجري عملية التحول في مجال الطاقة على قدم وساق في صناعة السيارات على سبيل المثال، إذ يقوم المصنعون ببناء مصانع للشركات الكهربائية والبطاريات.
هنا يوضح لـ"الاقتصادية" المهندس آر. أديسون نائب رئيس قسم العلاقات الدولية في الغرفة البريطانية للشحن، أسباب القلق بالقول "المتوسط العالمي لعمر المركبات على الطرق يبلغ 12 عاما، لكن متوسط عمر السفن الافتراضي يبلغ 25 عاما، وبناء سفن الحاويات الجديدة يمكن أن يكلف مئات الملايين من الدولارات، ومن ثم الخطأ في اختيار نوع الوقود يعني خسائر ضخمة، يمكن بسهولة أن تؤدي إلى إفلاس شركة الشحن التي تخطئ في الاختيار.
وأضاف قائلا "لذلك يوجد الآن اتجاه لدى شركات الشحن لطلب تصميم سفن تعمل بنوعين من الوقود، الميثانول على سبيل المثال، إضافة إلى وقود السفن التقليدي".
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فلا بد أن تكون الموانئ أيضا مجهزة لضمان تمويل السفن باحتياجاتها من أنواع الوقود الصديقة للبيئة وبأسعار تنافسية، لكن الميثانول الأخضر الذي تفضل بعض من شركات الشحن الدولية أن يكون هو الوقود المعياري الجديد في الصناعة، إنتاجه محدود وسعره مرتفع وأعلى بنسبة تراوح بين 50 إلى 100 في المائة من وقود السفن التقليدي.
وتتضح تفاصيل المعضلة عند معرفة أن شركة ميرسك عملاق الشحن البحري في العالم، التي قامت العام الماضي بتشغيل 15 في المائة من أسطول الخطوط الملاحية المنتظمة حول الكرة الأرضية، ستحتاج إلى مليون طن من الميثانول الأخضر سنويا لتشغيل السفن الجديدة.
لكن الإنتاج العالمي يبلغ نحو 30 ألف طن فقط، ولتأمين تلك الكمية وقعت اتفاقيات مع منتجي الميثانول في القطاع الخاص في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا إضافة إلى مصر.
لكن آخرين يفضلون تفادي المغامرة، ويفضلون طلب تصميم أو شراء سفن جديدة تعمل بالغاز الطبيعي المسال الذي ينبعث منه كمية أقل من ثاني أكسيد الكربون ويتوفر بكميات أكبر من الميثانول الأخضر.
مع هذا، أشار لـ"الاقتصادية" الدكتور جيرمي آرثر أستاذ التجارة الدولية في جامعة شيفيلد، إلى أن التوصل إلى إجماع بين شركات الشحن البحري سيكون صعبا للغاية عندما يتعلق الأمر بنوع الطاقة المرجح أكثر استخدامها في السفن الجديدة.
وأوضح أن "المنظمة البحرية الدولية وهي الجهة التنظيمية التابعة للأمم المتحدة، وضعت هدفا لصناعة النقل البحري لخفض انبعاثات الكربون إلى النصف بحلول 2050 مقارنة بمستويات 2008، وبعض الشركات مثل ميرسك تخطط لامتلاك أسطول محايد للكربون بحلول 2040".
واستدرك "لكن هذا الطموح يبدو مبالغا فيه، لأن أصحاب السفن سيضخون استثمارات في سفن جديدة دون ضمانات بشأن توفر قدر معين من الأعمال، ووسط مخاوف من ارتفاع تكاليف التشغيل، ولذلك لن يكون هناك طاقة أخرى أكثر ودية ويسرا في التعامل معها مثل النفط".
هذا الوضع تحديدا هو ما دفع لإنشاء ما بات يعرف بممرات الشحن المحيطية الخضراء، علما بأن الفكرة وراء هذه الممرات هي أن تسافر سفن الشحن على طول الطرق البحرية باستخدام وقود منعدم الانبعاثات أو منخفض الانبعاثات، وللمساعدة في تحقيق ذلك تعمل الموانئ المشاركة في تلك الممرات على بناء مرافق تخزين جديدة للوقود الأخضر كبدائل للوقود التقليدي.
لكن نظرا لأنه لا يمكن تنفيذ تلك الفكرة في كل موانئ العالم في ذات الوقت، فكان لا بد من إنشاء تلك الممرات على نطاق محدود، ثم توسيع نطاقها لاحقا.
في سبتمبر من العام الماضي، أبحرت أول سفينة حاويات بين سنغافورة وميناء روتردام الهولندي أكبر الموانئ الأوروبية عبر هذا الممر الأخضر، وكانت السفينة التي أطلق عليها اسم "لورا ميرسك" تعمل بالميثانول.
من ناحيتها، ذكرت لـ"الاقتصادية" الدكتورة لورين ديفيد أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة لندن، أن "مفهوم الممرات الخضراء ولد في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالمناخ كوب 26 المنعقد في جلاسكو في اسكتلندا 2021، ويسمى إعلان كلايدبانك الذي وافقت عليه 22 دولة ويتضمن التزاما بإنشاء ستة ممرات على الأقل بحلول منتصف هذا العقد".
وأضاف "في كوب 28 المنعقد في دبي في دولة الإمارات تم الإعلان عن ممرات جديدة، بما في ذلك ممر من الساحل الغربي لكندا إلى كوريا الجنوبية واليابان وواحد في منطقة الكاريبي، وآخر بين هيوستن في الولايات المتحدة وأنتويرب في بلجيكا".
لكن مزيدا من الممرات الخضراء حول العالم لا تحل مشكلة صناعة الشحن البحري من وجهة نظر البعض ومن بينهم المهندس إس. أن مادسلين عضو لجنة التطوير في اتحاد الموانئ البريطانية، فقناعته أن الممرات الخضراء مفهوم لا يزال في مرحلة النضج إلى حد ما ويركز حتى الآن في الأغلب على إظهار الجدوى الفنية والتنظيمية للشحن المنخفض أو صفري الكربون، فلماذا يكون من المنطقي توسيع نطاقه؟
وقال مادسلين لـ"الاقتصادية" إن "بعض الموانئ تواصل الاستعداد لتكون قادرة على تزويد السفن باحتياجاتها من الطاقة الجديدة، لكن من الواضح أن شركات بناء السفن تواجه تحديا كبيرا".
وبين أن "أرقام الصناعة تشير إلى أن 0.6 في المائة فقط من سفن الشحن حول العالم تعمل بالوقود البديل، و15 إلى 16 في المائة فقط من السفن المطلوبة حاليا ستعمل بالوقود المزدوج أو البديل".
وكشف مادسلين عن تشككه في أن تحظى ممرات الشحن الخضراء بالشعبية بين شركات الشحن العالمية، وقال إن "الوقود البديل باهظ الثمن، ورؤساء مجالس إدارات شركات الشحن البحري الرئيسة، وعلى الرغم من التصريحات الرنانة والداعمة للتغيير يخشون أن تجعل عملية التغير شركاتهم أقل ثراء، لذلك لن يحظى هذا التغيير بشعبية، فعملية إزالة الكربون من الشحن البحري معقدة ومكلفة على حد سواء".
لكن نبرة الشك تلك لا تنفي أن ممرات الشحن الخضراء حول العالم في تزايدـ، إذ ارتفعت من 21 إلى 44 في 2022، ويعتقد بعض الخبراء أن هذا العام سيكون محوريا بالنسبة للممرات الخضراء.

الأكثر قراءة