العقارات التجارية .. البيع بأسعار بخسة
خلف الواجهات اللامعة لشركة سيلفريدجز في لندن ومبنى كرايسلر في نيويورك، قام الملياردير العقاري النمساوي رينيه بنكو ببناء قنبلة مالية موقوتة.
مجموعة بنكو، سيجنا، التي اشترت حصصا في الأصلين الفاخرين وجمعت محفظة عقارية بقيمة 27 مليار يورو (29 مليار دولار)، تراكمت عليها ديون لا تقل عن 13 مليار يورو خلال الأعوام التي كانت فيها تكلفة الاقتراض تقترب من لا شيء.
قال أحد التنفيذيين العقاريين الأوروبيين: "لقد أتخم بنكو نفسه في التمويل الرخيص من كل مكان".
كما تسبب قرار بذل شركة سيجنا أقصى ما بوسعها خلال عصر الأموال الرخيصة في تعرضها إلى أخطار الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة هذا العام. حيث يقدر بنك جيه بي مورجان أن ما لا يقل عن أربعة مليارات يورو من الديون المستحقة على شركتين فرعيتين محوريتين تابعتين لشركة سيجنا هي بأسعار فائدة عائمة. وأدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى الإضرار بقيم العقارات التجارية في جميع السوق، ما أدى إلى انخفاض قيمة الأصول المستخدمة لتأمين قروض سيجنا.
وتقدمت شركة سيجنا هولدنج، الشركة المركزية، بطلب لوضع نفسها تحت الإدارة في الأسبوع الماضي.
تواجه المجموعة أسئلة صعبة حول ممارساتها التجارية وتقييماتها، لكن تفككها هو أبرز الأعراض حتى الآن للتكيف المؤلم مع ارتفاع أسعار الفائدة عبر قطاع العقارات التجارية العالمي الذي تبلغ قيمته تريليونات من الدولارات.
لقد ازدهر أصحاب العقارات في عالم الديون الرخيصة التي جعلت الاستثمار العقاري جذابا نسبيا. لكن ذلك الارتفاع أدى إلى عواقب متوقعة.
وقال أليكس ناب، كبير مسؤولي الاستثمار في أوروبا في شركة هاينز العالمية للاستثمار العقاري الخاص التي تبلغ قيمتها 100 مليار دولار: "إن حجم إعادة ضبط التقلبات الدورية من حيث التقييمات العقارية كبير بشكل مشابه لأوائل التسعينيات أو الأزمة المالية العالمية. إنها كبيرة، إن لم يكن ذلك واضحا".
الخسائر غير المحققة
مع انتهاء عصر أسعار الفائدة المنخفضة للغاية، يواجه أصحاب العقارات – من الشركات الخاصة الصغيرة إلى الشركات العامة الكبيرة – فواتير فائدة أعلى، وتقييمات منخفضة وفي كثير من الحالات المحتاجة إلى النقد لسداد الديون.
لقد برزت المجموعات العقارية الأوروبية باعتبارها بؤرة للمتاعب. فقد أبرمت صاحبة العقارات شركة إس بي بي SBB السويدية صفقة مع شركة بروكفيلد لجمع الأموال وهي تواجه حاملي السندات الغاضبين الذين يطالبون باسترداد أموالهم. ونجت شركة أدلر الألمانية من طعن أمام محكمة في المملكة المتحدة من قبل حاملي السندات هذا العام بشأن خطة إعادة الهيكلة، في محاولة منها لتجنب الإفلاس.
يعاني كثير من أصحاب العقارات خسائر غير محققة. حيث قدر توم ليهي، المدير التنفيذي في شركة إم إس سي أي للأبحاث، في سبتمبر الماضي أن نحو 50 في المائة من الأصول العقارية التجارية في لندن أصبحت الآن قيمتها أقل من قيمة شرائها. وكان أداء نيويورك أفضل نسبيا، حيث انخفضت قيمتها دون الرهن العقاري إلى الخمس فقط، لكن كثيرا من أصحاب المكاتب هناك يواجهون خسائر فادحة.
سيبذل المالكون ما في وسعهم لتجنب بلورة تلك الخسائر (أي تحويل الخسائر المحتملة إلى خسائر محققة - المترجم). حيث تميل التقييمات الرسمية إلى التخلف عن واقع السوق، لأنها تعتمد على أدلة من معاملات أخرى، بينما توقف إبرام الصفقات. وانخفضت قيمة الصفقات المكتملة بأكثر من 50 في المائة في أوروبا والولايات المتحدة في الربع الثالث مقارنة بالعام السابق، وفقا لمؤشر إم إس سي آي.
وقال المسؤول التنفيذي الأوروبي: "لا يبيع البائعون شيئا ما لم يضطروا إلى ذلك. ولا يشتري المشترون شيئا ما لم يكن رخيصا حقا. ومن أجل أخذ شيء ما إلى لجنة الاستثمار، يجب أن تبدو كأنها صفقة متعثرة".
جمع محللو العقارات في جرين ستريت قائمة بأكثر من 3.3 مليار يورو من المباني المكتبية في المملكة المتحدة وأوروبا التي فشلت في البيع عام 2023 بعد طرحها في السوق، بما في ذلك برج كوميرزبانك في فرانكفورت، قائلين إن القائمة ربما كانت مجرد "غيض من فيض من البيع المجهض".
يفرض الواقع في السوق عندما يحين موعد استحقاق القروض، أو يتم انتهاك المواثيق المتعلقة بالقروض. سيحاول المالكون إبرام صفقات سرية مع مقرضيهم أو بيع بعض الأصول سرا لجمع الأموال. وقد تكون هذه العملية بطيئة.
وقال ناب: "يتحدث الناس عن جدار إعادة التمويل، لكنه لا يعمل حقا بهذه الطريقة على الإطلاق. سيستغرق الأمر أعواما حتى تنجح تلك المناقشات".
صعوبات إعادة التمويل
لن تتوزع المعاناة المالية بالتساوي في سوق العقارات الأوسع. بالنسبة لبعض أصحاب العقارات الذين يسعون للحصول على المال، فإن انتشار المقرضين البديلين منذ عام 2009 يعني أن هناك صناديق ديون جاهزة لتعويض النقص الذي تركته البنوك.
وقالت ليزا أتينبورو، رئيسة قسم استشارات الديون في شركة نايت فرانك: "في الأشهر الـ12 الماضية، فجأة، بدا الأمر كما لو أن الجميع أدركوا أنهم ليسوا مضطرين لشراء هذا الأصل مقابل 100 في المائة من السعر، إذ يمكنني الإقراض مقابل هذا الأصل بنسبة 60 في المائة. وإذا ساءت الأمور، فلدي ضمان ذو أولوية. لدي الآن على الأرجح أكثر من 100 صندوق ائتماني في سجلاتي".
وقد تكدس المستثمرون الجدد في الائتمان جزئيا، لأن عمليات الشراء المباشرة تبدو صعبة، لأن قيم العقارات قد تنخفض أكثر. ويعتقد كثير من المستثمرين أن الديون هي الرهان الأكثر أمانا.
وقال ماكس فون هورتر، رئيس قسم الاندماج والاستحواذ الأوروبي في بنك الاستثمار العقاري إيستديل سيكيورد: "إن تسعير أحد الأصول في عالم من أسعار الفائدة الأعلى لفترة أطول أمر صعب. لذا فإن العثور على مشترين مستعدين لخوض مخاطر الأسهم أمر صعب بالقدر نفسه. الصفقات الائتمانية أسهل – حيث يمكن للمستثمرين كسب عائد جيد للغاية دون أخذ أول دولار من التعرض". لكن التمويل غير متاح للجميع.
فقد واجهت شركة سيجنا آجال استحقاق قروض بقيمة 1.3 مليار يورو عام 2023، التي عانت للوفاء بها رغم المحادثات المحمومة مع المقرضين والمستثمرين الجدد المحتملين.
الأصول التي تتمتع بآفاق تأجير جيدة – مثل المستودعات، والمباني السكنية وشركة المكاتب الراقية – ستجد أن إعادة التمويل أسهل.
الفرق هو بين الأصول التي تحتاج إلى رؤية قيمتها بشكل صحيح، وتلك التي من المتوقع أن تمحى قيمتها.
قال ريموندو أمابيلي، الرئيس التنفيذي المشارك لأعمال العقارات التابعة لشركة بي جي أي إم التي تبلغ قيمتها 210 مليارات دولار: "إننا نشهد في الواقع أصولا أصبحت عالقة بسرعة لم نشهدها أبدا في السوق من قبل. لا أحد يريد الإقراض مقابل الأصول العالقة".
وقال أمابيلي: إن حسابات أصحاب المكاتب التي يحتمل أن تصبح عالقة كانت "مختلفة تماما". وقال: "لن أضع فلسا واحدا في هذا. إنها في الأساس مشكلة مصرفية".
وستواجه بعض الأصول صعوبات لأنها كانت مثقلة بكثير من الديون الرخيصة التي تحتاج لإعادة تمويل، حتى لو كان الطلب عليها مناسبا من جانب المستأجرين والإيجارات.
حتى أكبر المستثمرين خفضوا خسائرهم في بعض المباني المكتبية، بما في ذلك قرار شركة بروكفيلد هذا العام بالتخلف عن سداد ديون برجين في لوس أنجلوس. وقد تم تغيير ملكية أبراج المكاتب في نيويورك مقابل أقل من قيمة الأرض التي تقع عليها، حيث يبحث المستثمرون عن استخدامات بديلة للمباني القديمة.
وتجمع العاصفة التي تواجه أصحاب المكاتب، خاصة في أمريكا الشمالية، بين الانخفاض الحاد في الطلب والحاجة إلى إنفاق كبير لتحديث المباني القديمة، علاوة على الانكماش العقاري الأوسع نطاقا وارتفاع تكاليف الديون. وقال ناب: إن الأمر يرقى إلى مستوى "أزمة مالية عالمية صغيرة للمكاتب الثانوية".
متاعب في أوروبا
تشتد حدة العاصفة أيضا في ألمانيا. وستوجه المشكلات التي تتعرض لها شركة سيجنا ضربة أخرى لسوق البلد، ما يحد من شهية البنوك لإقراض العقارات التجارية.
قال بيتر باباداكوس، رئيس قسم الأبحاث الأوروبية في شركة جرين ستريت: "سيكون هناك قليل من البيع بأسعار بخسة، لكن ليس إلى الحد الذي سيؤدي إلى انهيار البنوك. شركة سيجنا لا تملك تأثيرا شاملا في سوق العقارات الأوسع. المكان الذي سيكون فيه هذا العرض السيئ الحقيقي هو على وجه التحديد في ألمانيا، وفي المكاتب".
لكن انخفاض أرقام التضخم في أكتوبر وزيادة رهانات السوق على أنه سيتم خفض أسعار الفائدة في وقت أبكر مما كان يعتقد في السابق، عززت الآمال الخاصة بين البعض في قطاع العقارات في أنه يمكنهم تجاوز الانكماش. وارتفعت أسهم العقارات الأوروبية بنحو الربع منذ نهاية أكتوبر مع قيام المستثمرين بتعديل توقعاتهم.
يشير الخبراء في مجال العقارات إلى أن الصناعة عملت لعقود من الزمن بمعدلات فائدة أعلى. التحدي الذي يواجه فئة الأصول التي تعتمد بشكل كبير على الديون هو التغلب على هذا التحول بعد أكثر من عقد من الاقتراض الرخيص للغاية.
وقال فيليب مور، رئيس قسم الديون العقارية الأوروبية في شركة أريس: "يستغرق الأمر بعض الوقت حتى يتخلص الناس من الإثارة الناجمة عن بيئة أسعار الفائدة المنخفضة. إنك ترى البزوغ البطيء لحقيقة أن ما شهدناه على مدى الأعوام العشرة الماضية مع بيئة أسعار الفائدة المنخفضة كان خارجة عن المألوف".