اليابان .. الفلسفة بوصفها بلسما من داء التقدم
تحتل اليابان الصدارة في قائمة أعداد المسنين في العالم، بنسبة بلغت 29.1 في المائة من إجمالي السكان، فأحدث الإحصائيات، حسب وكالة الأنباء اليابانية، تفيد بأن إجمالي الأشخاص الذين تفوق أعمارهم 65 عاما تعدى 36 مليون شخص من إجمالي سكان البلاد البالغ 124 مليون نسمة. فيما بلغ من تفوق أعمارهم 80 عاما، ولأول مرة، نسبة 10 في المائة من مجموع السكان. أرقام مثيرة تدفع للبحث عن السر وراء ذلك، فكيف استطاع الشعب الياباني تسجيل هذه الأرقام القياسية عالميا في الهرم السكاني للبلد.
إنه التطور الصناعي والتقدم التكنولوجي الذي دفع كثيرين عند وصفهم ما يجري هناك إلى استعمال "كوكب اليابان"، فمنسوب التطور لدى الأمة اليابانية مرتفع مقارنة بـبقية الشعوب. تفسير منطقي سرعان ما يتهاوى بإمعان النظر في بواطن الأمور، فالصواب أن تدفع ضغوط الحياة بسرعتها المتزايدة إلى نتائج عكسية، بسبب الإيقاع المرتفع المفضي إلى الإجهاد والإنهاك، بذلك تكون النتيجة سقوط الأفراد تباعا بفعل نمط الحياة الحديث، الصناعي الرأسمالي الدخيل على المجتمع الياباني.
صحيح أن ثورة الميجي (1867-1868) قذفت بالبلاد في غياهب المعاصرة، بتبني الدولة للنظام الاقتصادي الرأسمالي. لكن ذلك لم يكن على حساب الأصالة الضاربة بجذورها في أوساط مختلف فئات المجتمع الياباني. فكانت الثقافة القديمة بلسما يستعين به أحفاد الساموراي لمواجهة أعطاب الحداثة وعلل التصنيع المتراكمة عليهم. هكذا انتشرت بين القوم فلسفات محلية، أقرب ما تكون إلى صمام أمام لأفراد المجتمع، تساعد على إيجاد حل لمعادلة عيش حياة طبيعية في ظل النموذج الرأسمالي الغربي الضاغط.
تعد الإيكيجاي إحدى هذه الاتجاهات الفلسفية المساعدة على تحقيق التوازن المفقود، ويظهر ذلك في تفكيك الكلمة: "إيكي" وتعني الحياة، فيما تعني "جاي" القيمة، بذلك يكون حاصل الجمع بين الكلمتين هو قيمة الحياة أو الهدف من الحياة، أي سبب العيش. بصيغة أكثر وضوحا، إيكيجاي هي الدافع الذي لأجله يستيقظ الإنسان كل يوم في الصباح الباكر. إنه حسب مؤلفي "إيكيجاي: أسرار اليابان لحياة طويلة وسعيدة" تعد (2016) سر السعادة وطول العمر في اليابان.
يتعدى الأمر تحقيق السعادة نحو البحث عن سر الوجود بداخل كل فرد، أي السعي وراء معنى للحياة، فالاهتداء إليه يقود المرء إلى حالة من الرضا والسعادة، ببلوغ أكبر قدر من احترام الذات من خلال إدراك أن وجوده في العالم له سبب وضرورة. يتحقق ذلك بالإجابة على أربعة أسئلة رغم بساطتها، تبقى أساس هذه الفلسفة، ماذا تحب؟ وما أفضل عمل تقوم به؟ ماذا يمكنك أن تعطي للعالم؟ ماذا ستقدم للوصول إلى ما تريد؟
باختصار، وبشكل مبسط، ينبغي لكل من يسعى للعثور على الإيكيجاي الخاصة به، أن يضع أمامه ثلاث قوائم، في الأولى يحدد قيمته، وفي الثانية ما يستمتع به، وفي الأخيرة ما يجيد فعله، مدار تقاطع القوائم الثلاث يمثل الإيكيجاي الخاصة به التي تضفي معنى على وجوده في الحياة. وعن ذلك تقول مؤلفي "إيكيجاي: منح كل يوم سعادة ومعنى" يوكاري ميتسوهاشي: "في حياتنا اليومية، سواء كنا نغمر أنفسنا بالطبيعة أو نلتهم الطعام الياباني التقليدي، فإن الاهتمام بالتفاصيل يدفع تركيزنا على ما هو أمامنا مباشرة، بدلا من التساؤل عن قوائم المهام التي في رؤوسنا. ذلك يسمح لنا بالعثور على المتعة والإيكيجاي في الأشياء اليومية البسيطة".
من أعماق الطاوية استلهم اليابانيون فلسفة "وابي سابي" التي تحث على تقدير البساطة والتواضع في كل ما يحيط بنا، فالشق الأول "وابي" يدل على الجمال الأنيق للبساطة، فيما يفيد الثاني "سابي" التدهور بمرور الوقت. بذلك يكون هذا المذهب أسلوبا لمشاهدة العالم وتقدير كل ما يستحق، أو بعبارة أخرى دعوة صريحة إلى التركيز على الجمال العابر في الطبيعية، مع ما يعنيه ذلك من إدراك غير دائم، فالفناء أصيل في ذواتنا وفي الطبيعية من حولنا.
إنها نزوع نحو استبعاد الكمال والمثالية من حول الإنسان، فمن شأن تقبل العيوب أو محاولة إصلاحها، في النفوس أو الأشياء على حد سواء، أن يفضي إلى الأحسن في كثير من الحالات. وكأن في هذا الأمر إحالة على فن ياباني تقليدي، يدعى كينتسوجي يعود إلى القرن 15، يعمد إلى جبر الكسور في الأواني والأثاث والتحف دون إخفائها، فالتصالح مع الذات بعيوبها وإحباطاتها يصنع شخصيات جديدة، فضلا عن كونه تكريس لخصلة التسامح مع العيوب والنواقص.
تكرس هذه الفلسفة بدورها تقبل الحياة بصورها المختلفة، فالفشل والإخفاق والهشاشة والألم... جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، ما يجعل التعاطي معها والسعي للتغلب عليها بلا ضغط أو تدمر، أساسا من أسس الحياة الطبيعية التي تشعر المرء بالضعف والنقص من ناحية، وتحثه من ناحية أخرى على تقدير أي نجاح مهما بدا صغيرا وبسيطا. إنها تذكير بالحكمة التي ينتصر لها أوريليوس، إمبراطور روما، متى واجهته ضغوط "إن حياتي وجيزة مقارنة باتساع الزمن، وصغيرة مقارنة باكتمال الكون".
هذه الفلسفات وغيرها ما يجعل الابتسامة لا تفارق وجوه اليابانيين، وكانت سببا وراء انبعاثهم وسط خراب الحرب العالمية الثانية لتشييد دولة صناعية كبرى، في غضون 20 عاما. فضلا عن كونها درعا واقيا للمجتمع من أعطاب التحديث (قلق، اكتئاب، اعتلال صحي...) فاليابانيون هناك في الشرق، ورغم التقدم في السن، أفضل حالا من المسنين في الدول الغربية، لأن مثل هذه الفلسفات تجعل لحياتهم معنى تمنحه دلالة لا يجد أقرانهم في الغرب إليه سبيلا.