العولمة لم تصطدم بالحائط .. إنها تتقدم
أنباء وفاة طفرة العولمة التي بدأت في التسعينيات تكتسح الساحة لمدة طويلة. فيروس كوفيد - 19، والصراع بين الولايات المتحدة والصين، وتغير المناخ، والنضال من أجل التفوق الصناعي الأخضر، جميعها أمور طرحت كأسباب لتوقف العولمة. ومع ذلك العولمة تتحرك.
في الوقت الحالي، صحيح أن عصر "العولمة المفرطة" من 1992 إلى 2008 تقريبا -حيث نمت التجارة على نحو ملحوظ بشكل أسرع من الناتج المحلي الإجمالي العالمي- قد انتهى، وهو تحول وصف وصفا جيد جدا في دراسة جديدة من أرفيند سوبرامانيان، ومارتن كيسلر، وإيمانويل بروبرزي.
لكن عند الفحص الدقيق، يبدو أن بعض الجوانب الإيجابية للعولمة إما تباطأت طبيعيا أو لا تزال طور التقدم، وما سار في الاتجاه المعاكس لم يكن خسارة كبيرة. هناك بعض التحديات الحرجة التي تنتظرنا في التعامل مع صدمات الاقتصاد الكلي، خاصة في الصين، ويظل هناك دائما خطر تصاعد التوترات الجيوسياسية بسرعة. لكن فقط الذين يقدسون تدويل حصة متزايدة الضخامة من النشاط في كل قطاع اقتصادي يمكن تصوره هم من عليهم القلق بشأن ما حدث حتى الآن.
على الصعيد العالمي، استقرت تجارة السلع نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي أو تقلصت قليلا منذ الأزمة المالية في 2008. ولا تزال تجارة الخدمات ترتفع كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وإن كان بمعدل أبطأ من ذي قبل، وعلى أي حال فإن الأرقام محرفة بسبب الإبلاغ غير الدقيق لأغراض التهرب الضريبي.
لكن، كما تشير الدراسة، فإن التطور الملحوظ ليس أن تجارة السلع تتباطأ، بل أنها ظلت قوية كما كانت. لقد واجهت رياحا معاكسة شديدة، لكنها هذه الرياح تتعلق بتطور اقتصادات العالم أكثر من ارتباطها بصدمات مثل كوفيد أو الحكومات المتدخلة.
من إحدى النواحي، فإن عملية مراجحة تكاليف العمالة -الدول الغنية التي تعتمد على مصادر من الاقتصادات ذات الدخل المنخفض- استنفدت إمكاناتها إلى حد ما، على الأقل في تلك البلدان "مثل الصين"، حيث ربطت البنية التحتية الجيدة العمال ذوي التكلفة المنخفضة بشبكات القيمة العالمية. "هناك كثير يمكن القيام به في بلدان مثل الهند، لكن ضعف البنية التحتية ومناخ الأعمال أعاقاها". هذه نتيجة جيدة تستحق الاحتفال بها. كما لعبت التجارة في السلع بعد الحرب دورا كبيرا في الحد من عدم المساواة العالمية، لدرجة أن عدد العمال الفقراء المتبقي لتحرره بات أقل.
في المقابل، على الرغم من أن الناتج الصناعي حافظ على مكانته كحصة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في العقد الأول من القرن الـ21، تم تداول حصة أصغر من التصنيع العالمي دوليا. الصين، التي أصبحت أكثر تطورا من الناحية الاقتصادية وتتقدم في سلسلة القيمة، استحوذت على مزيد من شبكات التوريد داخل اقتصادها.
هناك جزء واحد من العولمة تراجع بالتأكيد، لكنه كان على أي حال سببا للارتياح. إذ لم تستعد تدفقات رأس المال العابرة للحدود قط مستوياتها التي كانت عليها قبل الأزمة المالية العالمية. والأمر الآخر الجيد، أن تحركات رأس المال قبل الأزمة كانت تعكس فقاعة مالية. لقد كان من الخطأ دائما أن يساوي أنصار العولمة التجارة الحرة في السلع والخدمات بالحسابات الرأسمالية المحررة.
ومن المثير للقلق إلى حد ما أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر قد انخفضت أيضا، نظرا لارتباطها بشكل وثيق بالنمو الاقتصادي. لكن جزءا كبيرا من الاستثمار الأجنبي المباشر هو نشاط اندماج واستحواذ، الذي يولد رسوما للمحامين والمصرفيين، لكنه لا يفعل الكثير للاقتصادات المتلقية للاستثمار.
الاستثمار المباشر الأجنبي في مجالات جديدة، الذي يضيف إلى القدرة الإنتاجية، يقدم مساعدة أكبر بكثير، وقد ظل عدد مثل هذه المشاريع الجديدة ثابتا إلى حد ما منذ الأزمة المالية. وهناك حاجة إلى مزيد من الاستثمارات في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، خاصة لتحقيق التحول الأخضر. لكن هذا يعد فشلا للحكومات في عدم توفير حوافز كافية لتمويل المناخ، وليس انهيار النظام المالي العالمي.
وكما هي الحال دائما عندما نكون متفائلين بشأن العولمة، من الجيد أيضا ذكر المحاذير الكبيرة. تبدو المتاعب الاقتصادية التي تواجهها الصين -فشل النمو في التعافي بعد كوفيد، وانهيار الاستثمار الأجنبي المباشر- خطيرة للغاية. وفي رد فعل السلطات الصينية في البداية على الأزمة المالية في 2008، حولت تركيز سياستها من الترويج للصادرات إلى الإنفاق على البنية التحتية، خاصة في مجال الإسكان. "ومع ذلك، استمرت صادرات البلاد في اكتساب حصة في السوق العالمية". ويعد تحويل الطلب نحو الاقتصاد المحلي السياسة الصحيحة عموما للصين، لكن ليس من خلال تعزيز طفرة العقارات.
بطبيعة الحال، لا ينبغي أن يكون انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين مدمرا لإنشاء شبكات القيمة العالمية، حيث قد تحول الشركات الدولية ببساطة استثماراتها إلى اقتصادات أخرى. لكن إذا عادت الصين إلى تعزيز الصادرات بنشاط والتسبب في تخمة أكبر في البضائع مثل أشباه الموصلات والسيارات الكهربائية، فإن تدفق الصادرات الناتج عن ذلك سيزيد من حدة التوترات التجارية. وقد يفعل مزيدا أيضا لتأجيل الانهيار الاقتصادي الصيني، بدلا من تفاديه.
لكن يجب أن تذكرنا الدراسة التي أجراها سوبرامانيان وزملاؤه بالسبب الذي يجعلنا نهتم بالعولمة. إن تكامل الأسواق العالمية في البضائع والخدمات ورأس المال والبيانات والأشخاص ليس أمرا يجب السعي إليه بأي ثمن. إنه وسيلة لتحقيق غاية. على مدى 30 عاما، عززت تجارة السلع والخدمات الرخاء، بما في ذلك إنشاء التكنولوجيات اللازمة لتحسين الحياة ونشرها. وإذا تمت إدارتها على النحو الصحيح، فمن الممكن أن تساعد على فعل الشيء نفسه لمكافحة تغير المناخ.
من المؤكد أن العولمة لم تفشل. كما أنها لم تصطدم بحائط حتى الآن. إنها تتطور، جزئيا استجابة للتغيرات التي أحدثها نجاحها. لقد تلاشى عصر العولمة المفرطة الذي حظي بضجة كبيرة، لكن ما زال تحقيق المكاسب القوية مستمرا.