بنجلادش أمام مشهد غذائي مليء بالمفارقات .. الجوع وحش عصي على الترويض

بنجلادش أمام مشهد غذائي مليء بالمفارقات .. الجوع وحش عصي على الترويض
بنجلادش أمام مشهد غذائي مليء بالمفارقات .. الجوع وحش عصي على الترويض
بنجلادش أمام مشهد غذائي مليء بالمفارقات .. الجوع وحش عصي على الترويض

كانت بنجلادش -وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو" في عام 2001- من بين الدول العشر الأولى المنتجة لـ11 سلعة زراعية، وبحلول عام 2011 كانت بين الدول العشر الأولى المنتجة لـ17 سلعة زراعية، والآن تصنف من بين الدول العشر الأولى في إنتاج 22 منتجا زراعيا رئيسا.
وخلال 52 عاما من الاستقلال، زاد إنتاج الحبوب الغذائية في بنجلادش خمس مرات، ففي إنتاج الأرز تحتل المرتبة الثالثة عالميا وتتمتع بالاكتفاء الذاتي، والسادسة في إنتاج العدس والفواكه الاستوائية، والسابعة في إنتاج البصل والبطاطس، والثامنة في الشاي واليقطين، والتاسعة في المانجو والجوافة والقرنبيط والبروكلي، أي باختصار يحق لبنجلادش أن تفتخر بإنجازاتها الزراعية، وتحقق الاكتفاء الذاتي في عديد من المنتجات الغذائية.
إذن نحن نقف أمام تجربة زراعية رائدة.. لكن التمهل وعدم التسرع في استخلاص النتائج، قد يجعلانا نرى وجها آخر للعملة.. فعلينا أن نتذكر دائما أن لكل عملة وجهين.
ووفقا لمؤشر الجوع العالمي، فإن بنجلادش تحتل المرتبة 81 من بين 125 دولة، تحسنت قليلا عن أعوام سابقة لكنها لا تزال في النصف الأسفل من القائمة، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فأسرتان أو أكثر من بين كل عشر أسر تعانيان انعدام الأمن الغذائي، وهذا اتجاه متزايد منذ شهر مايو الماضي.
ووفقا لأحدث عملية مسح قام بها برنامج الأغذية العالمي أجري في أغسطس الماضي، كان نحو 24 في المائة من السكان أو 40 مليون نسمة يعانون انعدام الأمن الغذائي، إذ إن تلك النسبة من المواطنين ليس لديها ما يكفي من الغذاء أو النوع المناسب من الغذاء لتلبية احتياجاتهم الغذائية وعيش حياة صحية ونشيطة، وهذا بطبيعة الحال له آثار سلبية في صحة السكان الجسدية والقدرة التعليمية وحتى التماسك الأسري والاجتماعي.
كما كشف المسح أن 47 في المائة من الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي ينتمون إلى أسر منخفضة الدخل، و30 في المائة من الأسر أبلغت عن عدم كفاية استهلاكها الغذائي، و74 في المائة من الأسر تقوم بشراء كميات صغيرة أو أغذية أقل تكلفة من السوق.
قد تبدو تلك الأرقام مفزعة في دولة زراعية في الأساس، تفتخر بإنتاجها الزراعي والسمكي وتحقيق الاكتفاء الذاتي منهما، وبالتدقيق سنكتشف أن المشهد الغذائي في بنجلادش مليء بالتناقضات، فبينما تتقدم الدولة في مجال الإنتاج الزراعي، وتتنامي الاستثمارات لديها في هذا القطاع، يبدو انعدام الأمن الغذائي بين شريحة واسعة من المواطنين وحشا عصيا على الترويض.
هنا يرى البروفيسور جوهان فليبس أستاذ الزراعة الحديثة، أن بنجلادش أدخلت عديدا من التحسينات الكبيرة في المعايير الغذائية العامة في البلاد خلال العقد والنصف الماضي، وقفز إنتاج الخضراوات على سبيل المثال من ثلاثة ملايين طن عام 2009 إلى 22 مليون طن حاليا.
لكنه يقول لـ"الاقتصادية"، "إن جائحة كورونا تسببت في انخفاض الدخل لدى قطاعات متعددة من سكان البلاد، وأوجد ذلك تحديات مختلفة، منها تراجع القدرة الشرائية للقطاعات محدودة الدخل والأسر الفقيرة، كما أن المخاطر البيئية تسهم في زيادة الجوع وانعدام الأمن الغذائي، وهذا التحدي سيزداد مستقبلا بسبب الفيضانات، كما أن 16 في المائة من سكان البلاد ستعاني تآكل الأنهار".
ويواصل البروفيسور جوهان فليبس القول "كان هناك تأثير سلبي للحرب الأوكرانية، والوضع الاقتصادي العالمي وزيادة التضخم، ما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وبالطبع تفاقم الأمن الغذائي".
لكن وجهة النظر تلك لا تلقى قبولا شديدا من بيبيا كريستوفر الباحثة الاقتصادية التي ترى أن الأسباب التي ذكرها البروفيسور جوهان فيليبس أسباب تركز على الأزمة الراهنة، وتتجاهل أن الجوع وانعدام الأمن الغذائي يكادان يكونان من الأمراض المستوطنة في النسيج الاقتصادي والاجتماعي لبنجلادش منذ خمسة عقود ونيف، وأن الأمر لا يرتبط بارتفاع أسعار المواد الغذائية عالميا، أو بعجز الموارد، إنما بعوامل أخرى أكثر تجذرا في سياق التطور الاقتصادي لبنجلادش.
وقالت لـ"الاقتصادية"، "إن الدولة البنجلادشية في مرحلة ما بعد الاستقلال افتقرت إلى القدرة الإدارية والمؤسسات الفعالة، ولذلك تقف عاجزة عن تحقيق قفزات تنموية أو اقتصادية، والدولة -على الرغم مما حققته من إنجازات في المجال الزراعي في الأعوام الأخيرة- إلا أنها لم تدعم الزراعة المحلية بشكل يحدث طفرة ضخمة في الإنتاج تتناسب مع الزيادة السكانية وبما يقضي على انعدام الأمن الغذائي، ونتيجة للنظام البيروقراطي والتوازنات السياسية لا يعني أن النجاح الزراعي يقابله غياب لمعضلة الأمن الغذائي".
وأضافت "التدخلات السياسية تضعف بل وأحيانا تفشل آليات قوى السوق، وتحول دون عملها بشكل فعال، فالجهود التي تبذلها الدولة لمراقبة الأسواق وطرح مبادرات لتثبيت أسعار المواد الغذائية وجعلها متاحة للجميع، غالبا ما لا تعمل وفق المعايير الاقتصادية، إنما وفق المعايير السياسية، لهذا تفشل ولا تحقق الإنصاف ولا تساعد على تحقيق الكفاءة الاقتصادية".
ويواجه القطاع الزراعي في بنجلادش -الذي يسهم بـ12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي- تحديات متعددة تجعل من تلبية الطلب المتزايد على الحبوب الغذائية أمرا شديد الصعوبة، فالمزارعون من أصحاب الحيازات الصغيرة يجدون صعوبات جمة من أجل زيادة الإنتاج بطريقة فعالة في ظل التكلفة الإنتاجية المتصاعدة، خاصة مع ارتفاع أسعار الطاقة والأسمدة، وغالبا ما يجد صغار المزارعين صعوبة في المشاركة في السوق بشكل فعال نظرا لصغر حجم إنتاجهم وارتفاع تكاليف المعاملات والقدرة التخزينية المحدودة.
تلك العوامل تدفع بمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إلى إعادة النظر في فلسفة حل معضلة الأمن الغذائي في بنجلادش، فعلى المستوى الدولي يقدر أن ثلث جميع الأغذية المنتجة للاستهلاك البشري تفقد أو تهدر في مكان ما بين المزرعة ومائدة الطعام، وفي بلد مثل بنجلادش تقدر المنظمة الدولية أن الخسائر تحدث في الأغلب في المزارع وفي المراحل الأولى من سلاسل التوريد بعد الحصاد، وهذا يعني أن جزءا كبيرا من الإنتاج لا يصل إلى الأسواق. ووفقا لهذا المفهوم تعمل منظمة الأغذية والزراعة على طرح أفكار جديدة تتعلق بالاهتمام بتعبئة المنتج الزراعي خاصة الأرز، باعتبار ذلك مدخلا رئيسا لمعالجة مشكلة الأمن الغذائي في بنجلادش عبر تقليص المهدر من المحصول، ومن ثم وصول كميات أكبر من المواد الغذائية إلى الأسواق المحلية، ما يضمن انخفاض أسعارها بحيث تصبح في متناول قطاعات أكبر من المستهلكين من الطبقات الفقيرة، وتأمل المنظمة الدولية القيام باستثمارات تسمح لها بمساعدة 123 ألف مزارع من أصحاب الحيازات الصغيرة.
مع هذا، يرى دي. ديفيد أستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة لندن، أن هناك ثلاثة تحديات رئيسة وراء تفاقم الأمن الغذائي في بنجلادش تتمثل من وجهة نظره في الحاجة المتزايدة في البلاد إلى الحبوب الغذائية نتيجة تزايد الاستهلاك المحلي منها، وانخفاض القوى الشرائية لأغلبية السكان، والتفاوت السائد فيما يتعلق بتوزيع الدخل في المجتمع.
لكنه مع ذلك يشير إلى جانب تقني مهم يعوق الجهود الحكومية المبذولة لوضع حد لمشكلة الأمن الغذائي التي تمسك بتلابيب البلاد.
وذكر لـ"الاقتصادية" أنه "لا يمكن تصور الزراعة الحديثة دون استخدام الأسمدة الكيماوية، والعام الماضي بلغ طلب بنجلادش من الأسمدة ستة ملاين طن متري وتبلغ نسبة الاستيراد نحو 80 في المائة، وقد أدت الحرب الروسية - الأوكرانية إلى زيادة أسعار الأسمدة، وأوجد هذا ضغطا شديدا على أسعار المحاصيل الزراعية خاصة أن بنجلادش تستورد الجزء الأكبر من احتياجاتها من الأسمدة من روسيا". وتثير توقعات منظمة الأغذية والزراعة بشأن بنجلادش القلق، ففي العام الماضي أشار التقرير العالمي حول الأزمات الغذائية لعام 2022 إلى أن بنجلادش من بين أكثر من 50 دولة تعاني أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي الحاد، ما يتطلب اتخاذ إجراءات حكومية أكثر انحيازا لصغار المزارعين عبر ضمان حصولهم على إعانات حكومية تمكنهم من خفض تكلفة الإنتاج الزراعي، خاصة مع ارتفاع أسعار الوقود والأسمدة.
كما يتطلب الأمر من الحكومة ضمان حصول المزارعين على سعر عادل لمنتجاتهم، فبدون أسعار تفضيلية لن يتشجع المزارعون على مواصلة العملية الإنتاجية، ومما يفاقم الأزمة الغذائية في البلاد، أن الدعم الحكومي لأصحاب الحيازات الصغيرة قد يترك بصمة ثقيلة نوعا ما على الميزانية العامة المثقلة بكثير من الأعباء، لكنه في الوقت ذاته يضمن انتعاش القطاع الزراعي ودرجة أعلى من الأمن الغذائي لـ170 مليون شخص هم عدد سكان بنجلادش.

الأكثر قراءة