التهديد الوشيك لأزمة مالية تهز العالم

التهديد الوشيك لأزمة مالية تهز العالم

هناك فكرة ساخرة قديمة تقول إن اختصار صندوق النقد الدولي باللغة الإنجليزية IMF، دل، بدلا من اسمه الحقيقي، على "تطبيق سياسة مالية في الأغلب". لم يبد هذا النعت ملائما تماما عموما لفترة. بالطبع استمر الصندوق في الشكوى من التسيب المالي في الدول التي تضررت من أزمة، مثل اليونان أو الأرجنتين. لكنه، في مراقبته الأوسع، كان متساهلا بشأن السياسة المالية منذ الأزمة المالية. لكن كان ذلك عالم أسعار الفائدة "المنخفضة فترة طويلة"، أو حتى "أخفض من المنخفضة فترة أطول". هذا لم يعد العالم الذي نعيش فيه بعد اليوم. لقد تغير الصندوق كما ينبغي. حذرت جيتا جوبيناث، النائبة الأولى للمدير العام، داعية إلى "تركيز متجدد على السياسة المالية، وإلى جانب ذلك إعادة ضبط التفكير في السياسة المالية". أصبح صندوق النقد الدولي "يطبق سياسة مالية في الأغلب" مجددا.
لا شك أن الدين العام قد وصل إلى مستويات عالية حسب المعايير السابقة. يظهر تحديث لرسم بياني نشره صندوق النقد الدولي في 2020 نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي للدول ذات الدخل المرتفع عند 112 في المائة في 2023، انخفاضا من ذروتها الأخيرة التي بلغت 124 في المائة في 2020. تطابق النسبة الأخيرة الذروة السابقة التي وصل إليها في 1946. ما يجعل هذا مثيرا للاهتمام أكثر هو أن الذروة السابقة حدثت بعد الحرب العالمية الثانية، فيما حدثت هذه الذروة الأخيرة في زمن سلم. إضافة إلى ذلك، بلغت النسبة للاقتصادات الناشئة 69 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، رقم قياسي لهذه الدول.
فهل كارثة في الدين العام على وشك الحدوث؟ إذا كانت كذلك، فهل سيحدث تخلف عن السداد، أو تضخم، أو قمع مالي "محاولات قسرية لإبقاء الديون رخيصة"، أو مزيج من الثلاث جميعها؟ إذا لم يحدث أي منها، فما الذي علينا فعله؟
ذكرنا أوليفر بلانشارد، كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي والآن في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن، بآليات الدين ومخاطره في تدوينة حديثة. أما آلياته، فالعوامل المحددة هي، أولا، العلاقة بين سعر الفائدة على الديون ومعدل نمو الاقتصاد، وثانيا، نسبة العجز المالي الأولي "العجز قبل مدفوعات الفائدة" إلى الناتج الإجمالي المحلي. أما مخاطره، فأهم نقطة هي أن الدين يجب ألا ينمو نموا هائلا. في حين لا يمكن وصف نسبة ديون معينة بأنها غير مستدامة، على أسس تجريبية أو نظرية، كلما ارتفعت النسبة الأولية واحتمالية سرعة نموها قل احتمال استدامة الدين. يجادل بلانشارد بأن "الاقتصادات المتقدمة يمكن أن تحافظ على نسبة ديون أعلى، طالما أنها لا تزداد كثيرا". لكن هناك احتمالا "على الرغم من عدم اليقين" أن ترتفع أسعار الفائدة مع مستويات الديون. إذا حدث ذلك، فستميل ديناميكيات الديون إلى الزيادة.
إذا ظلت نسب الدين ثابتة، يجب أن يساوي معدل النمو الاقتصادي متوسط سعر الفائدة، عندما يكون رصيد العجز المالي الأولي "صفرا". كلما زاد فائض سعر الفائدة على معدل النمو، زاد الفائض المالي الأولي، والعكس صحيح.
أين وصلت الديون المالية والعجز في الاقتصادات الكبيرة مرتفعة الدخل اليوم؟
إن نسب صافي الديون لديها أعلى بكثير مما كانت عليه قبل عقدين. يتوقع الصندوق أن تبلغ نسب الدين إلى الناتج الإجمالي المحلي ما يقارب 100 في المائة في المملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة، و133 في المائة في إيطاليا، و156 في المائة في اليابان في 2024. على النقيض، كانت النسب في 2001 أقل من 50 في المائة في المملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة، و75 في المائة في اليابان، و100 في المائة في إيطاليا. حدثت هذه القفزات على الرغم من سعر الفائدة المنخفض. ثم من غير المفاجئ أن يكون العجز الأولي كبيرا: بين 2008 و2023، بلغ متوسطه 5.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة، و5.2 في المائة في اليابان، و4.1 في المائة في المملكة المتحدة، و2.9 في المائة في فرنسا. أما في إيطاليا فكان متوسط العجز الأولي 0.2 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي. لكن لم يكن ذلك كافيا لاحتواء الارتفاع في الديون في مجموعها، لأن أسعار الفائدة كانت مرتفعة للغاية في أزمة منطقة اليورو. كان هذا بمنزلة عقاب على الإسراف السابق. لكن ألمانيا تمكنت من تحقيق فائض أولي صغير بمتوسط 0.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
إذن، ما التوقعات المستقبلية لأسعار الفائدة والنمو الاقتصادي المحتمل؟ قفزت أسعار الفائدة بشكل كبير. ارتفعت عائدات السندات الحكومية الاسمية لأجل عشرة أعوام بين ثلاث نقاط مئوية في كندا و3.9 نقطة في المملكة المتحدة على مدى الأعوام الثلاثة الماضية. أما اليابان فهي استثناء كما هو معروف. لكن الأمر المذهل هو أن الارتفاع في العوائد الحقيقية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، اللتان عرضتا سندات مرتبطة بالمؤشر فترة طويلة، كاد أن يضاهي الارتفاع في العوائد الاسمية، إذ سجلت ثلاث نقاط مئوية على أوراق وزارة الخزانة الأمريكية المالية المحمية من التضخم مقابل 3.6 نقطة مئوية على السندات التقليدية، و3.4 نقطة مئوية على السندات الحكومية البريطانية المرتبطة بالمؤشر في المملكة المتحدة مقابل 3.9 نقطة مئوية على السندات الحكومية البريطانية التقليدية. لا يمكن أن تكون توقعات التضخم المرتفعة طويلة المدى جزءا كبيرا من سبب الارتفاع في العوائد الاسمية. يجعل هذا من التحول الصعودي في أسعار الفائدة الحقيقية المتوازنة أو السياسة النقدية الأكثر تشديدا تفسيرات لارتفاع التوقعات. إذا حدث الأول، التحول الصعودي، فقد تبقى أسعار الفائدة الحقيقية مرتفعة نوعا ما. أما إذا حدث الثاني، السياسة الأكثر تشديدا، فستنخفض من جديد عندما تعود السياسة النقدية إلى طبيعتها "مهما كان معنى ذلك". باختصار، قد تكون أسعار الفائدة الحقيقية أعلى بشكل دائم مما كانت عليه، على الرغم من أن ذلك ليس مؤكدا بعد.
أخيرا، ما معدلات النمو الاقتصادي المتوقعة؟ تشير توقعات الصندوق لفترة 2024 - 2028 إلى متوسط نمو حقيقي عند 1.9 في الولايات المتحدة، و1.8 في كندا، و1.6 في المملكة المتحدة وفرنسا، و1.4 في المائة في ألمانيا، و0.9 في المائة في إيطاليا، و0.6 في المائة في اليابان. هذه النسب منخفضة بلا شك مقارنة بأسعار الفائدة الحقيقية اليوم.
إذا كانت الحكومات ستتجنب مخاطر زيادة الديون ولن تلجأ إلى التضخم المفاجئ أو القمع المالي، فسيتعين عليها تشديد السياسات المالية الميسرة للغاية في الأغلب. لكن هل ستجرؤ على ذلك في المجتمعات التي تتقدم في العمر، مع اقتصادات بطيئة النمو وأعباء سياسة الدفاع المتزايدة.
سيساعد النمو الأسرع على ذلك. لكن كما أثبتت حكومة تراس في المملكة المتحدة، لا يمكن تحقيق ذلك بوسائل سحرية. يبدو أن الخيارات المالية المؤلمة تلوح في الأفق.

الأكثر قراءة