عالي القرشي .. الناقد الذي واجه الرتابة واستنطق الوجود
بعد معاناة مع المرض، رحل الناقد الصادق، الدكتور عالي سرحان القرشي، الذي غادر الحياة ولا تزال كتاباته الصادقة تسير بصدقها زادا في مجاهل الزمن وبين منعرجاته.
وكأنما يصف القرشي كتاباته، تحدث عن الكتابة التي تمخر عباب الرتابة، وتستنطق الوجود، وتفر بالإنسان من صقيع الآلة وآلية الحدث إلى رحابة زمنه المخضر بوجوده الفاعل في تحركه بماضيه، وتواصله مع ماضيه.
الدكتور عالي القرشي الذي عايش التحولات الكبرى في الحركة النقدية والأدبية في المملكة، يحمل مشروعا نقديا ثريا، ومقالات في الشعر والرواية والأدب في مجمله، لا يمل الإنسان قراءتها مرة تلو المرة، لما تحمله من لغة منسابة، تحمل فكرة ومعنى.
مواجهة مع الحياة والأحياء
الأديب ابن الطائف والمولود فيها عام 1371هـ، يحمل بكالوريوس اللغة العربية والتربية من كلية الشريعة في مكة المكرمة، ودبلوم الإدارة والتخطيط التربوي من كلية التربية، والماجستير من كلية اللغة العربية في جامعة أم القرى، والدكتوراه في البلاغة والنقد من الكلية ذاتها حول أطروحة بعنوان (الصورة الشعرية في شعر بشر بن أبي خزام الأسدي)، التي اضطر حينها إلى التبرؤ من الحداثة ليقنع الجامعة بالمضي في مناقشة الرسالة، وذلك في زمن ليس بعيدا عن الفترة التي شهدت حرمان الأديب سعيد السريحي من الحصول على الدرجة العلمية.
للقرشي كتب عديدة في نقد الشعر والرواية واللغة، منها كتابه (تحولات الرواية في المملكة العربية السعودية) الحاصل على جائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب 2014، إلى جانب مقالات وآراء نقدية بلغة حية ومترسلة، تنتهج مسار الكتابة الإبداعية، التي وصفها ذات مرة بأنها امتداد للذات، واستشراف للأفق، ولن تكون الكتابة كذلك ما لم تكن قادرة على إيقاد الجذوة المبدعة في الإنسان، واستنهاض طاقاته مع طاقات موروثه الإبداعي، ليلتقي مع وهج الزمن، ويقبض على جذوة الحركة العالمية.
عالي القرشي في إحدى أبرز مقالاته يرى الكتابة مواجهة مع الحياة والأحياء، والرغبة العارمة في الإفضاء إلى فضاء النص الذي تحدثه بما يختلج داخله من قلق وتوتر، ولذا تكون الكتابة الناهضة على التخدير والسرد كتابة عقيمة، تلوك حروفها، وتلوك ذات كاتبها على الصفحات لتشيعه جنازة ماتت قبل الموت، ودعت الآخرين إلى رثائها.
مشروع نقدي ثري
للأديب الدكتور عالي القرشي مشروع نقدي ذو أهمية علمية وإضافة معرفية، يحمل جهدا علميا مثريا، وينطوي على رؤية نقدية عميقة، ويقدم صورة للأجواء التي كانت سائدة في الربع الأخير من القرن الـ20، وفي بدايات الألفية الثالثة في مجالي الأدب والنقد، وطبعت رؤيته ضمن أعماله الكاملة في مجلدات بدعم من نادي الطائف الأدبي عام 2021، حيث يجد المتتبع لمشروعه النقدي انصهار التراث مع الحداثة، وتداخل القارئ مع الناقد، وتجاوز النقد الموضوعي مع حالة التذوق.
عن مشروعه النقدي، كتب الدكتور حمد السويلم رئيس نادي القصيم الأدبي تقديما للأعمال الكاملة الصادرة عن دار الانتشار العربي، أكد فيه أن القرشي وجد في مشروعه النقدي بأن المفتاح الذي يفضي إلى أي نجاح في استبطان اللغة يتوقف على المقاربات التأويلية المنضبطة، وفي مقاربته التأويلية لم يبتعد عن اللغة، بل انطلق منها للكشف عن جدلية العلاقة بين الأداة والرؤية، وعن حالة التوتر بين التحجب والانكشاف، وعن التعاقب بين حضور الذات وحضور العالم، فالمكونات اللغوية من كلمات وجمل تمثل مرجعيات أساسية في المقاربة التأويلية عند عالي القرشي.
وظهرت أمام القرشي، وفقا للدكتور السويلم، إشكالية نقدية تتعلق بالممارسة التطبيقية، خاصة حينما يكون النص من جنس الرواية، حيث إن اختيار أشكال اللغة لا يكون عادة بالحرية التي قد يتصورها البعض، إذ إن الروائي يختار مادته تبعا للظروف، وعادة ما تكون تلك الظروف محكومة أيديولوجيا واجتماعيا، وبالتالي يعد تأويل تلك النصوص تأويلا للغة المحكومة اجتماعيا، وذلك يعني انهماك المحلل في تأويل عمليات ووظائف ومدلولات التفاعل اللغوي والاجتماعي.
سجال الشاعر مع اللغة الشعرية
للأديب الراحل عالي القرشي وقفات مع الشعر، كان يرى أن الشاعر حين ينشئ قصيدته، يروم منها امتدادا لذاته، يحمل تميز شخصيته وتفردها، ويحمل فعلا يلحق بأعدائه الخيبة والخسران، وودادا يصل به إلى شغاف القلوب عند من يأنس بهم، ويتقوى بوصلهم وجوده، ولذا يبذل الشاعر كل غاية ممكنة في سبيل إقامة امتداد فاعل ومؤثر للذات، وعليه تكون القصيدة محصلة لاستنفار قوى وطاقات كامنة تصهرها القدرة الشاعرة، لتعطي وجودها سعة تتجاوز بها الطاقة المحدودة إلى الآفاق التي تبلغها الكلمة حبا واسترضاء، أو بغضا وهجاء.
وقال في محاضرة سابقة له في نادي الطائف الأدبي، إن الثقافة العربية أدركت أن الكلمات بالنسبة إلى الشاعر أبية عصية المراس، قبل أن نتلقف ذلك عن الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر "والكلمات للمتحدث خادمة طيعة، وللشاعر عصية أبية المراس لم تستأنس بعد، فهي على حالتها الوحشية، وللكلمات للمتحدث اصطلاحات ذات جدوى، وأدوات تبلى قليلا قليلا باستخدامها، ويطرح بها حين لا تعود صالحة للاستعمال، وهي للشاعر أشياء طبيعية تنمو طبيعية في مهدها كالعشب والأشجار".
ويظهر هذا بأن الشعر ليس بأفكار جاهزة يأتي الشاعر ويلبسها قوالب التعبير، إذ لو كان كذلك لسهل الشعر على كل من يجيد الوزن ويجمع القافية، لكنه سجال بين الشاعر واللغة الشعرية، وجهد لغوي يجعل الشاعر يبحث عن الكلمات التي تحمل مضامين رؤيته بحثا مضنيا ينبئنا فيه الشاعر عن وقوعه في أسر الخيار بين الكلمات، ذلك الخيار الذي يجعله يختار كلمة ويجهد في ترويض أخرى، بحثا عن التركيب المتفرد المتميز، على حد وصف القرشي الدقيق لحالة الشاعر مع اختياره الكلمات.
منطق النص لا تصنيفه
كان عالي القرشي يرفض تصنيف الأدب، وكتب عن رأيه صراحة في تعقيب على مقال للأديب الراحل عابد خزندار، حمل عنوان (لنخرج من بيروقراطية مصطلح تصنيف الأدب)، ولا يهتم باللافتة الكبيرة التي يدرج تحتها النص الأدبي، كالكلاسيكية والرومانسية، والواقعية والحداثة وما بعد الحداثة، حيث تعطي حكما مسبقا على النص الأدبي.
يتعامل القرشي مع منطق النصوص، مشيرا إلى سمة غياب الإنسان مع بعض السمات الأخرى من سمات أدب ما بعد الحداثة، فنفي وجود هذا الأدب لا يعني نفي بعض السمات التي عرفت لذلك الأدب، ولا سيما غياب الإنسان، لأن التعلق الإنساني بالكلمة وفراره إلى عوالم الإبداع لا ينشأ بالضرورة عن علاقة آلية بسيطة، لذلك كان يرفض الراحل هذه المصطلحات المحملة بحمولات مذهبية، ولا سيما أن مصطلح "الحداثيين" و"ما بعد الحداثيين" أطلقا على هؤلاء الأدباء بعد أن كتبوا أدبهم وفرغوا منه، وهذا التصنيف أو التوصيف أو التنابز بالألقاب لا يختلف عن إصدار الأحكام، بل من قبيل حيلة العاجز أو نوع من القراءة الخاطئة.