الغرامات وحدها لن تغيرهم

لا تزال قضية فرض غرامات باهظة ومرتفعة الأرقام محل موضوع نقاش وجدال مستمر من أجل تفعيلها، حيث هناك اتجاه متصاعد بشأن فرضها كوسيلة لردع وتصحيح السلوك العملي والمهني. ويرى الذين يؤيدون هذا النوع من العقوبات أن الأهم هو ردع الأفراد والمنظمات عن التورط في سلوكيات غير مرغوب فيها، فالخوف من تكبد عقوبات مالية ضخمة يكون حافزا قويا للتغيير، إن استخدام الغرامات الباهظة كرادع متجذر في نظرية الاختيار العقلاني التي تشير إلى أن الأفراد سيختارون طوعا عدم التورط بسلوك غير قانوني إذا كانوا يعتقدون أن التكاليف أو العقوبات المحتملة تفوق الفوائد المترتبة على أفعالهم.
لكن لن يتم تفعيل الاختيار العقلاني ما لم يتم تفعيل نظرية الردع بشكل صحيح، فهما متلازمتان، فهو لا بد أن يكون محددا وردعا عاما، كما أن هذا النوع من الضبط المحدد يهدف إلى منع الشخص الذي ارتكب الجريمة بالفعل من معاودة ارتكابها من خلال فرض عقوبات مثل الغرامات الباهظة، فالتجربة السلبية لهذا الاتجاه وألمها ستردع الجاني عن تكرار أفعاله في المستقبل، في المقابل، يأتي الردع العامل بمنع المجرمين المحتملين ومن رسم صورة ذهنية للعواقب الوخيمة عند ارتكاب السلوك المجرم. والملاحظ أن تطبيق هذه النظريات على أي غرامة بشكل صحيح هو الضمانة للامتثال، فأي غرامة إذا لم تستطع التصدي لمفهوم الاختيار العقلاني، فإنها لن تكون فاعلة مهما كانت قيمتها، فالشعور بالألم من عدم اتخاذ السلوك أكبر بكثير من الشعور بالألم من القيام به، وبينما تبنى إحدى الحجج الداعمة للغرامات الباهظة كرادع فاعل لكونها تفرض عبئا ماليا كبيرا على المخالفين، ما يجعل الانخراط في أنشطة غير قانونية أقل جاذبية لهم، خاصة إذا اقترن ذلك بإدراك خطر القبض الذي يؤدي أيضا دورا حاسما في فاعلية الغرامات الباهظة كرادع، فإذا اعتقد الأفراد أن هناك احتمالية كبيرة للاعتقال ومواجهة عقوبات مالية شديدة، فقد يكونون أكثر ميلا إلى الالتزام بالقانون. ومع ذلك، فإن العلاقة بين الاختيار العقلاني والردع هي العلاقة الأبرز، خاصة في عالم الأعمال فقد أشارت الأدلة التجريبية إلى أن المنظمات تنظر إلى خطر فرض غرامات باهظة على أنها تكلفة ممارسة الأعمال التجارية، وليس سببا لتغيير سلوكهم، وهي في العادة تحمل المستهلكين ضريبة هذه الغرامات، أو يتحملها المستثمرون في شكل تراجع العوائد، ومن العيوب الأساسية في الغرامات الباهظة أنها قد تقود إلى تفاقم عدم المساواة، فأولئك الذين لديهم موارد مالية أكبر قد يكونون أكثر قدرة على استيعاب العبء المالي للغرامة الثقيلة، في حين أن أولئك الذين لديهم موارد أقل قد يكونون أكثر عرضة للتعرض لصعوبات مالية، كما أن المنظمات الضخمة التي لديها قاعدة عريضة من المحامين والقانونين لديها وسائل متعددة لتجنب هذه الغرامات أو المماطلة في دفعها، بينما يفشل الذين ليس لديهم مثل هذا الجيش من القانونيين، بالتالي يتجنب الأقل حظا تلك السلوكيات المجرمة، بينما يستمر الكبار في ذلك، ما يوجد عدم مساواة في العوائد بسبب الاحتكارات وخروج الشركات الملتزمة من الأسواق، فالشكل النهائي للغرامات المفرطة هو إخراج الملتزمين من الأسواق.
وفي تقرير متعمق يتحدث عن مدى تأثير هذه الغرامات المفرطة في سلوك شركات التكنولوجيا العملاقة، قدمت "الاقتصادية" أدلة تجريبية من خلال تتبع سلوك هذه الشركات في مقابل الغرامات التي فرضت عليها، إما بسبب تحديد الأسعار وإما بإخراج منافسين أو سوء استخدام بيانات، وقد بين التقرير بشكل واضح أن الأمر يستغرق أعواما قبل أن تدفع هذه الشركات فلسا واحدا، فمثلا تقول هيئة تنظيم البيانات الأيرلندية، إن شركة "ميتا" لم تدفع أيا من الغرامات البالغة ملياري يورو "2.2 مليار دولار" المفروضة منذ سبتمبر الماضي. من جهتها، ذكرت هيئة تنظيم البيانات في لوكسمبورج أن "أمازون" تستأنف قرار فرض غرامة قدرها 746 مليون يورو منذ 2021، و"جوجل" تناور الجهات التنظيمية في الاتحاد الأوروبي فتعترض على غرامات تبلغ قيمتها أكثر من ثمانية مليارات يورو بسبب إساءة استخدام مكانتها في السوق بين 2017 و2019. ومن جهتها تقوم "أبل" منذ أعوام بمكافحة دفع غرامة الاحتكار الفرنسية البالغة 1.1 مليار يورو، وأمر بدفع ضرائب بقيمة 13 مليار يورو لأيرلندا، وهكذا يؤكد التقرير أن تغريم شركات التكنولوجيا لا يوقف سلوكها السيئ، بل هي تتعدى إلى تطبيق القواعد ضدها، ما يدعم سلوك هذه الشركات، تلك القواعد المحاسبية التي تسمح لها بعدم الاعتراف بهذه الغرامات كخسائر طالما هي منظورة في المحاكم، ما يمنحها لأعوام طويلة فرصة كبيرة في تجنب تأثير هذه الغرامات في قوائمها المالية، وبالتالي الاستمرار بدفع العوائد للمستثمرين، والمحافظة على تدفق الأموال من المقرضين، فمهما بلغت قيمة هذه الغرامات فهي لن تطبق فعليا. وفي الوقت نفسه، فإن فرض هذه الغرامات من خلال القوانين التي تجرم السلوك، يضع عديدا من الشركات الوطنية تحت طائلة النظام، فهي إن التزمت خسرت وإن لم تلتزم خسرت أيضا، بينما هذه الشركات العملاقة لا تلتزم ولا تتأثر، لذلك يرى عديد من المحللين تطبيق بدائل للغرامات الثقيلة، من بينها تقديم حوافز للسلوك الإيجابي، فمن يلتزم يحقق منافع أكثر ممن لا يلتزم، ومن ذلك تقديم إعفاءات ضريبية أو أشكال أخرى من الدعم للأفراد والمنظمات، التي تنخرط في سلوكيات مرغوبة، ومن ذلك أيضا تطبيق النهج القائم على إصلاح الضرر الناجم عن ارتكاب المخالفات، بدلا من معاقبة مرتكب المخالفات. وأما في شأن شركات التكنولوجيا يدعو بعض الخبراء إلى اتخاذ تدابير تستهدف بشكل مباشر الممارسات التجارية الأساسية والخوارزميات التي تؤدي إلى السلوك الضار وفرض قيود على استخدام البيانات، ومساءلة المديرين التنفيذيين وقادة الشركات ومقاضاتهم بشكل مباشر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي