الميل الأخير .. الحجة المبررة لتخفيف السياسة النقدية أصبحت أقوى
هل بلغت أسعار الفائدة في البنوك المركزية ذروتها في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو؟ إذا كانت كذلك، فما سرعة تراجعها؟ منذ منتصف 2021 تقريبا، كان من الواضح أن البنوك المركزية اضطرت إلى تشديد سياساتها كثيرا. لكن ما يتعين عليها فعله تاليا غير مؤكد. وأيا كان ما قد يقوله محافظو البنوك المركزية بشأن ما يعتزمون فعله، فإن الأحداث دائما لها الكلمة الأخيرة. وإذا، كما يتوقع كثيرون الآن، انخفض التضخم الأساسي بسرعة نحو المستهدف الذي وضعته، فسيتعين عليها تخفيف السياسة. في حين أن فقدان المصداقية مدمر عندما يرتفع التضخم عاليا جدا، فإنه مدمر أيضا عندما ينخفض كثيرا. ستكون العودة إلى مستوى تضخم دون المستهدف والسياسة النقدية "التي لا طائل منها" أمرا غير مرغوب فيه على الإطلاق. يبدو أن الوقت المناسب للاستجابة لمثل هذه المخاطر قريب - أقرب مما تعترف به البنوك المركزية، خاصة في ظل تأخر ظهور تأثير إجراءات التشديد السابقة.
أعلن جاي باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وكريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، عن خطتهما بعدم تخفيف السياسة قريبا. وقد ظلت أسعار التدخل للفائدة مستقرة لفترة، فسعر الفائدة على الأموال الفيدرالية عند 5.5 في المائة منذ يوليو، وسعر الفائدة على ودائع البنك المركزي الأوروبي عند 4 في المائة منذ سبتمبر. لكن باول حذر هذا الشهر من أن مهمة إعادة التضخم إلى مستهدفه 2 في المائة لا يزال أمامها "طريق طويل لتقطعه". وكذلك أخبرت لاجارد "فاينانشيال تايمز" قبل أسبوع أن التضخم في منطقة اليورو سينخفض إلى مستهدفه 2 في المائة إذا ظلت أسعار الفائدة عند مستوياتها الحالية "فترة طويلة بما فيه الكفاية". لكن "هذا ليس شيئا يعني أننا سنشهد تغييرا في الربعين المقبلين. عبارة طويلة بما فيه الكفاية يجب أن تعني طويلة بما فيه الكفاية فعلا".
نستنتج استنتاجا معقولا من هذا السلوك بأن، باستثناء بعض الأحداث المفاجئة، أسعار الفائدة بلغت ذروتها الآن. لكن البنوك المركزية تؤكد في الوقت نفسه خطتها لإبقائها مرتفعة. أحد المبررات للإعلان عن هذه النية هو أن الإعلان في حد ذاته أداة سياسة. فإذا اعتقدت الأسواق أن أسعار الفائدة المنخفضة قريبة، فمن المرجح أن ترفع أسعار السندات، وبذلك تنخفض أسعار الفائدة وتخفف الظروف النقدية. ونظرا إلى عدم اليقين الذي يكتنف الآفاق المستقبلية، فإن البنوك المركزية لا ترغب في تعطيل الظروف المالية المشددة حاليا بهذه الطريقة. إنها تفضل إبقاءها كذلك إلى أن تتأكد من أن اقتصاداتها لم تعد بحاجة إليها.
حتى الآن، هذا مفهوم تماما. السؤال هو إلى أي مدى يكتنف الآفاق المستقبلية عدم يقين. تختلف الإجابات التي يقدمها المتفائلون بخصوص الولايات المتحدة ومنطقة اليورو. لكنهم توصلوا إلى النتيجة نفسها تقريبا: إن تهديد التضخم يمر أسرع مما تظنه البنوك المركزية. في تحليلات أخيرة، يعرض خبراء الاقتصاد في بنك جولدمان ساكس هذا الموضوع بوضوح.
فيما يتعلق بالولايات المتحدة، تقول البنوك المركزية: "التضخم الأساسي انخفض بحدة من ذروته في الجائحة وينبغي أن يبدأ انخفاضه النهائي في 2024". وترى انحسارا أكثر في التضخم مصدره إعادة التوازن في أسواق السيارات وتأجير المساكن والعمل. وتضيف أن "نمو الأجور تراجع في معظمه إلى وتيرته المستدامة التي تبلغ 3.5 في المائة". في المجمل، من المتوقع أن ينخفض معدل التضخم في نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي إلى نحو 2.4 في المائة بحلول ديسمبر من العام المقبل. أما في منطقة اليورو، يتوقع بنك جولدمان أن "يعود التضخم طويل الأجل إلى طبيعته عام 2024. تباطأ التضخم الأساسي أكثر من المتوقع في الأشهر الأخيرة (...) ويظهر نمو الأجور علامات تباطؤ واضحة".
فيما يتباطأ التضخم في كلا المنطقتين، فإن الصدمات والأداء الاقتصادي اختلفا كثيرا. الاختلاف الأكثر وضوحا يظهر في النمو هذا العام. في 2022، تتبعت توقعات الإجماع لنمو الولايات المتحدة ومنطقة اليورو لعام 2023 بعضها بعضا في الانخفاض، حيث تراجعت توقعات النمو لعام 2023 من نحو 2.5 في المائة في يناير 2022 إلى الصفر تقريبا نهاية العام الماضي. لكن التوقعات لنمو الولايات المتحدة تتوقع الآن 2.4 في المائة، أما منطقة اليورو فهي 0.5 في المائة فقط. التركيبة في أمريكا التي تتألف من النمو القوي وانخفاض معدلات البطالة وانخفاض معدلات التضخم تبدو أشبه "بانحسار التضخم الخالص" الذي لم أصدقه مرة. أما لم حدث ذلك فهو موضوع لوقت آخر. لكن من حيث الناتج، فإن انحسار التضخم يبدو متعكرا في منطقة اليورو. هذا ليس مفاجئا، لأن التضخم والنمو الضعيف كانا مدفوعين بصدمة الطاقة الناجمة عن الحرب في أوكرانيا.
الآن، انظر إلى المستقبل. فكما قال جون لويلين، قد يكون الاقتصاد الأمريكي أضعف بكثير العام المقبل. أما النمو في منطقة اليورو، فحتى توقعات بنك جولدمان المتفائلة نسبيا تتوقع نمو 0.9 في المائة فقط في 2024. حتى هذه التوقعات تفترض تخفيف السياسة النقدية للبنك المركزي الأوروبي استجابة لأخبار أفضل عن التضخم. على البنوك المركزية أن تفكر في المستقبل وأن تتذكر الفوارق الزمنية بين أفعالها ونشاطها الاقتصادي. وبفعلها ذلك، قد تلقي نظرة على البيانات النقدية. النمو السنوي للنقود المتداولة في الاقتصاد، المعروض النقدي الأوسع (إم 3)، سلبي قطعا. لا يمكن استهداف البيانات النقدية. لكن لا ينبغي أيضا تجاهلها.
باختصار، يبدو منطقيا أكثر فأكثر أن دورة التشديد هذه قد وصلت إلى نهايتها. أيضا، يبدو أن بداية التخفيف اللاحق أقرب مما تقول البنوك المركزية على الأرجح. إذا تبين أن الأمر ليس كذلك، فهناك خطر في أن التخفيف قد يأتي بعد فوات الأوان لتجنب تباطؤ مكلف، بل وحتى العودة إلى مستوى تضخم منخفض للغاية. لكن أيا من هذا ليس مؤكدا، فعملية صنع السياسات في مرحلة صعبة حقا من الدورة الآن.
علينا أيضا أن نعتبر من بعض الدروس. أولا، تؤكد مرونة الاقتصادات الكبيرة أن تشديد السياسة النقدية كان مبررا، إلى أين قد يصل معدل التضخم في الولايات المتحدة الآن دون هذا التشديد؟ ثانيا، ظلت توقعات التضخم ثابتة، رغم بعده عن المستهدف. وهذا يعني أن نظام استهداف التضخم كان ناجحا. ثالثا، كان أداء أسواق العمل أفضل من المتوقع. رابعا، التوجيهات فيما يخص المستقبل محفوفة بالمخاطر، إذ يجدر بصانعي السياسات التفكير مليا قبل أن يتعهدوا بالتزامات قد يضطرون إلى الإخلال بها قريبا. وأخيرا، ينبغي لهم ألا يخوضوا حربا أطول مما ينبغي لمجرد أنهم بدأوها متأخرا. نعم، قد يكون الميل الأخير هو الأصعب. لكن يجب أن نلاحظ اللحظة التي نعبر عندها خط النهاية.