المكاتب .. تعود لتزدهر في شكلها اللاتيني

المكاتب .. تعود لتزدهر في شكلها اللاتيني

رواد الأعمال البارزين، مثل آدم نيومان، المؤسس المشارك لشركة وي وورك، وماسايوشي سون، مؤسس شركة سوفت بانك، لا يأخذون عادة دروسا في اللغة اللاتينية. ولا يأخذها معظم أباطرة العقارات، أو ممولوهم.
هذا مؤسف. ففيما تهدأ الأوضاع بعد انهيار شركة وي وورك الناشئة لتأجير المكاتب - التي انهار تقييمها المفترض من 47 مليار دولار إلى لا شيء تقريبا، الأمر الذي أدى إلى خسائر فادحة لممولها "سوفت بانك" - فإن الأمر يستحق التأمل في المفهوم الذي يكمن في صلب حلم نيومان، ألا وهو "المكتب".
في اللغة الحديثة، هذه الكلمة مرادفة لكلمة مبنى. لا عجب، فـ"المكاتب" المادية جسدت عمل الياقات البيضاء في الثقافة الغربية في القرن الـ20. ومن هنا جاء البرنامج التلفزيوني الذي يحظى بشعبية كبيرة بهذا الاسم، "ذا أوفيس".
لكن، من المفارقة أن الجذور اللاتينية الأصلية للكلمة لا علاقة لها بالمباني، بل كانت كلمة أوفيسيوم تعني "المهمة"، أو "الخدمة" أو "المنصب". ولهذا السبب يتحدث الناطقون باللغة الإنجليزية عن السياسيين بأنهم "مرشحين للمكاتب"، ويقصدون بها المناصب.
من ناحية، هذا مجرد فضول ثقافي واشتقاقي ينظر إلى أصل الكلمة. لكن من ناحية أخرى، ينبغي أن يذكر المستثمرين بنقطتين حاسمتين. أولا: إن ممارسات العمل لدينا، مثل غيرها من عناصر الثقافة الأخرى، ليست ثابتة أبدا، حتى لو كان كل جيل يعتقد أن أنماطه الاجتماعية ضرورية وصحيحة ودائمة، فالميمات "النكات" والأعراف تتغير.
ثانيا: في عالم ما بعد الجائحة الذي يتميز بالرقمنة المفرطة، أصبح المفهوم اللاتيني لأوفيسيوم -كون العمل منوط بالمهام والأشخاص، لا المباني- ذا صلة حديثا. تعود ثقافة "المكتب" إلى المستقبل، ولو بطريقة لم يتوقعها معظم المستثمرين في العقارات التجارية.
تتعلق القضية المطروحة بما هو أكثر مما إذا كان الناس يعملون من المنزل أم لا. نعم، أثناء الجائحة، ارتفعت مستويات العمل عن بعد بشكل كبير. ورغم تراجعها منذ ذلك الحين، إلا أن هذه الممارسة لا تزال منتشرة على نطاق واسع. وجدت دراسة استقصائية حديثة أجراها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أن ربع الموظفين كانوا منخرطين في عمل هجين أو عن بعد، ارتفاعا من 10 في المائة في 2018، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة. يقدر استطلاع أجرته مؤسسة جالوب نسبة أعلى للعمل الهجين، حيث تصل إلى نحو 50 في المائة.
لكن الأمر الأكثر إثارة للاهتمام من العمل من المنزل هو التحول المرتبط والدقيق في الخريطة الذهنية للعمل. في القرن الـ20 ارتبطت "المكاتب" في الغرب بحدود زمانية ومكانية واجتماعية. كانت الرؤية المثالية للعمل (إن لم يكن الواقع المعاش) هي أن هذا يحدث خارج المنزل، في ساعات محددة (من التاسعة إلى الخامسة، مثلا) مع زملاء من خارج العائلة وفي مرحلة محددة من الحياة (مثلا، قبل سن الـ65).
لكن توليفة من الجائحة والتحول الرقمي أدت إلى طمس الحدود، فقد تعلم عدد أكبر من الناس كيفية المزج بين منازلهم وأماكن عملهم، والكد على مدى من الساعات، و"العمل" بعد التقاعد. وكان هذا (ولا يزال) بالتأكيد، أمرا طبيعيا تماما لأغلب المجتمعات على مدى التاريخ البشري. لكنه يختلف عن معايير القرن الـ20.
يأمل بعض المسؤولين التنفيذيين أن يكون هذا التحول مؤقتا. وجدت دراسة أجرتها شركة المحاسبة كيه بي إم جي أن ثلثي المديرين التنفيذيين "يعتقدون أنه ستكون هناك عودة كاملة إلى المكتب في غضون ثلاثة أعوام". ربما، لكني أشك في أن أعراف القرن الماضي هذه ستعود بالكامل، خاصة أن الرقمنة تعزز تحولا ثقافيا غير ملحوظ آخر في اتجاه اختيار المستهلك الشخصي.
لقد بدأ يظهر جيل يخرج، يفترض أعضاؤه أن من الطبيعي أن يقوم المستهلكون بتخصيص طعامهم، ووسائل إعلامهم، والموسيقى والسياسة، والعائلات والهويات وفقا للأذواق الفردية. كما يشكل نهج الاختيار والمزج هذا المواقف تجاه العمل: حيث يطالب الموظفون بشكل متزايد بالمرونة في وظائفهم، حتى لو كانوا يذهبون إلى المكتب، ويشعر كثير من أصحاب العمل حتى الآن بأنهم مجبرون على تقديم ذلك.
هذا أمر يثير غضب كثير من المسؤولين التنفيذيين الأكبر سنا. لكنه يبدو طبيعيا ومرغوبا للعاملين الأصغر سنا. من هنا يأتي التحدي الذي يواجه المستثمرين في العقارات التجارية اليوم.
من بعض النواحي، كان نيومان نفسه متأقلما إلى حد كبير مع هذه التحولات الثقافية. كان سبب وجود "وي وورك" هو توفير القدرة على اختيار العقود بطريقة مرنة للعاملين المتقلبين بوظائف مؤقتة (وغيرهم).
لكن بما أن "وي وورك" كانت لديها عقود إيجار مدتها 15 عاما في المتوسط، مقارنة باتفاقيات عضوية العملاء متوسطها 1.5 عام فقط، فقد كان هناك تفاوت بين الأصول والالتزامات. هذا، إلى جانب الاستدانة المرتفعة والاعتقاد الخاطئ أن الجيل الجديد من العاملين المستقلين يرغبون في الذهاب إلى مكتب (وإن كان نسخة أكثر عصرية) مثلما فعل آباؤهم، زرعوا بذور زوال "وي وورك".
هذا لا يعني بالضرورة أن نماذج مساحات العمل المشتركة الأخرى ستفشل، وإذا أديرت بشكل أفضل، فقد تتوافق مع العصر. كما أن سقوط "وي وورك" لا يعني أن المساحات الحضرية ستفنى. رغم ارتفاع عدد المكاتب الشاغرة، وازدياد الأصول العالقة، فإن المناطق والمباني متعددة الاستخدامات التي توفر المرونة لا تزال قادرة على الازدهار. أو على الأقل ستزدهر إذا كان لدى صانعو السياسات الحنكة الكافية لتعديل قوانين تقسيم استعمالات الأراضي، التي في الأغلب ما تكون متعنتة إلى حد مثير للسخرية.
لكن الدرس الرئيس الذي على مستثمري العقارات التجارية -و"سوفت بانك"- تعلمه من "وي وورك" هو حماقة صياغة المستقبل على أساس الماضي القريب في فترات تقلب ثقافي، ووسط تدفقات من الأموال الرخيصة للغاية.
أو، بعبارة أخرى، "المكاتب" لم تفن، لكنها تزدهر الآن في شكلها اللاتيني كما في القرن الـ20. ربما حان لرجل أعمال ذكي إنشاء تطبيق أوفيسيوم؟.

الأكثر قراءة