تصحيح السوق .. الطاقة فائضة
يعد الشحن البحري أهم وسيلة نقل في العالم، حيث تتركز عليها شبكة الشحن الدولي، فهذه الوسيلة تتحمل مسؤولية نقل معظم حجم التجارة العالمية، فهو بحق شريان الاقتصاد العالمي. وهو من أقدم وسائل النقل وطرق الشحن عبر العصور لما له من أهمية بالغة منذ الأزل، حيث كان شحن البضائع قديما عن طريق القوافل والسفن حتى تدرج الأمر إلى وقتنا الحالي وأصبحت من أفضل وأسرع وسائل النقل.
ويتيح لنا الشحن المائي نقل البضائع على المياه إلى مناطق أخرى باستخدام السفن والزوارق أو أي وسيلة أخرى تسير عبر المياه، وتتم معظم عمليات النقل البحري بين بلدان العالم بوساطة سفن كبيرة من ضمنها الحاويات وناقلات النفط وناقلات المواد الأولية. وبذلك تحرص معظم الدول على امتلاك بواخر وسفن وحاويات نقل عملاقة وبأحجامها المختلفة لتسهل وتسرع عملية الشحن البحري للبضائع بقدر الإمكان. ومع التطور التكنولوجي في أيامنا هذه مقارنة بالماضي أصبح النقل البحري أسرع مع البواخر العملاقة، في ظل استخدام الغاز والبترول ومحركات الديزل.
ولكن خلال الفترة الماضية يمر هذا القطاع بتقلبات كثيرة تعود إلى أعوام عدة، وهذه التقلبات نتجت بالطبع عن متغيرات وتحولات واضطرابات يشهدها الاقتصاد العالمي كله. وهذا القطاع يعد بمنزلة مؤشر على الأوضاع العالمية من جهة التجارة وسلاسل التوريد وأسعار الطاقة وتكاليف توفير الخدمات، والتوظيف. وفي الآونة الأخيرة تحدث مفارقة ليست غريبة، ولكنها قليلا ما تظهر على الساحة، وهي ارتفاع تكاليف شحن الطاقة بأنواعها، وتراجع هذه التكاليف في مجالات شحن البضائع والسلع الأخرى المختلفة. فالطلب ارتفع بقوة على صعيد ناقلات النفط والغاز، وذلك بعودة الصين بكامل احتياجاتها من الطاقة إلى السوق، مع انتهاء عمليات الإغلاق التي فرضتها السلطات الصينية بسبب تفشي جائحة "كورونا"، حيث اتخذت قرارات مشددة وطويلة الأمد، مقارنة بمثيلاتها في أغلب الدول.
يمثل الشحن البحري أساس النشاط التجاري والنقل حول العالم، وتصل حصته إلى 80 في المائة من نشاط الشحن الدولي كله. وفي 2021 تم شحن نحو ملياري طن متري حول العالم، وتستحوذ بالطبع الحاويات على الجزء الأكبر من هذا النشاط. وخلال الأزمة التي تركتها الجائحة تراجع مستوى هذا الحراك إلى معدلات لافتة، وتأثر سلبا بالاضطرابات التي دامت أكثر من عامين على صعيد سلاسل التوريد، والمشكلات الجيوسياسية التي عمقت هذه الاضطرابات. لكن يبقى الشحن البحري الأكثر نموا واعتمادا من قبل كل الدول، لأسباب عديدة، على رأسها تراجع تكاليفه قياسا بالنقل الجوي، ونمو هذا القطاع بقوة في العقود القليلة الماضية، ما جعل البنى التحتية لها متراصة وقوية للغاية.
مع عودة النشاط الاقتصادي العالمي إلى قرب طبيعته، (ولا نقول طبيعته) في أعقاب "كورونا" والإغلاقات التي حدثت بسببها، ظل الطلب على الشحن البحري دون المستوى المتوقع، فيما لو استثنينا الطفرة الآتية على صعيد شحن الطاقة بحريا بسبب عودة الطلب الصيني.
هذا الطلب غير القوي أدى حاليا إلى نشوب حرب أسعار، مع ارتفاع العرض بشدة عن الطلب عموما. وهذا أمر طبيعي في ساحة تخضع للمنافسة منذ أن تشكلت، خصوصا مع وجود شركات شحن هائلة الحجم، وأخرى متوسطة يمكنها أن توفر الخدمات بأسعار تنافسية. ولهذا السبب اضطرت شركات الشحن إلى تخفيض ثلث نشاطها عبر المحيط الهادئ من تراجع الطلب على السلع. ولعل هذا ما يبرر قيام شركة "ميرسك" التي تسيطر على سدس تجارة الحاويات عالميا، بإلغاء أكثر من 6500 وظيفة مطلع العام الحالي، وتستعد لإلغاء 3500 وظيفة أخرى في وقت قريب.
العامل الذي أوصل مشهد الشحن البحري إلى هذه الصورة، لا يتعلق فقط بتراجع الطلب، ولكنه أيضا مرتبط مباشرة في أن الأسعار السابقة للشحن البحري عموما كانت مرتفعة أكثر من اللازم، بل مبالغا فيها. وما يحدث الآن يمكن وصفه بأنه عبارة عن عملية تصحيح للسوق. واللافت أيضا أن 7 في المائة من سعة السفن التجارية باتت معطلة لأسباب تتعلق بالأوضاع الاقتصادية العالمية، فضلا عن تفكك يحدث في التحالفات، بفعل الاضطرابات التي يشهدها قطاع الشحن البحري عموما، ودخول التنافس في ساحة شديد القسوة. ومن هنا، يمكن فهم حرب الأسعار التي ظهرت في الفترة الماضية، ومن المتوقع أن تتعمق أكثر، ما قد يؤدي لمزيد من تراجع تكاليف الشحن الخاص تحديدا بالسلع والحاويات التقليدية. ولا شك أن المخاوف تتزايد مع الطاقة الفائضة في الصناعة، ووجود أعداد كبيرة من ناقلات الحاويات دون حاجة إليها.
وفي كل الأحوال، لن تكون الفترة المقبلة على صعيد هذا القطاع متوازنة، مع اشتداد المنافسة، وتراجع الطلب على الشحن عموما، وظهور شركات جديدة يمكنها أن تؤثر في المشهد بصرف النظر عن مدى هذا التأثير. وفي النهاية، فإن المسألة تظل مرتبطة بالعرض والطلب، وبأوضاع الاقتصاد العالمي، فضلا عن أن الأسعار الحالية تعزز عملية تصحيح السوق التي كان ينبغي أن تتم منذ أعوام.