عوائد السندات المتقلبة .. ما المخرج؟
أكبر التحديات التي تواجه الأسواق المالية من جهة، وكذلك تواجه حكومات الدول التي تعتمد على الاقتراض في مصروفاتها التشغيلية والتنموية، نجدها في عوائد السندات المتقلبة، بل إن تلك العوائد باتت تشكل هاجسا مرعبا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي يصارع ظاهرة تضخم الأسعار منذ مارس 2022. المشكلة التي يعانيها "الفيدرالي" حاليا أن ارتفاع معدلات الفائدة على المديين المتوسط والطويل يجب ألا يكون كبيرا، وفي الوقت نفسه يجب ألا يكون كبيرا انخفاض تلك المعدلات.
في الأسابيع القليلة الماضية ارتفع عائد السندات العشرية الأمريكية إلى أعلى من 5 في المائة، وكان في ذلك مؤشرات إيجابية من وجهة نظر "الفيدرالي"، كون ذلك يساعد على السيطرة على التضخم، ويخفف من الحاجة إلى رفع معدلات الفائدة على المدى القصير، كما يقوم بذلك "الفيدرالي" بين الحين والآخر. لكن في الأيام القليلة الماضية بدأ عائد السندات العشرية في الانخفاض السريع إلى ما دون 4.5 في المائة، مخالفا توقعات "الفيدرالي" وآماله في إبقاء معدلات الفائدة مرتفعة. لذا هناك مخاوف من أن يضطر "الفيدرالي" مجددا إلى العودة لرفع أسعار الفائدة على المدى القصير، التي تقف حاليا عند 5.5 في المائة، وفي ذلك عدة تحديات لأسواق الأسهم، وكذلك للدول التي تعتمد على الاقتراض بشكل كبير.
ستواجه الحكومات على وجه الخصوص صعوبات في ارتفاع تكاليف ديونها، التي - بحسب وكالة ستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني - ستبلغ لدول مجموعة السبع 1.5 تريليون دولار في 2026، بينما كانت فقط 950 مليار دولار في 2018. وحتى حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ليست بمعزل عن ارتفاع معدلات الفائدة، بل إنها من أكثر الدول المتأثرة بذلك، نظرا لضخامة حجم الدين الأمريكي وحاجة الحكومة إلى مزيد من الاقتراض في الفترات المقبلة. فقط هذا الأسبوع تم الإعلان عن الحاجة إلى اقتراض 776 مليار دولار لثلاثة أشهر مقبلة، وهذه عمليات اقتراض ستتم وفق عوائد عالية ستمنحها الحكومة للمستثمرين الذي يطالبون بتعويض أكبر من ذي قبل ليتمكنوا من شراء السندات الحكومية. وللمعلومية، فإن حجم العجز في الميزانية الأمريكية للعام المالي الحالي تجاوز 1.7 تريليون دولار، أعلى بمقدار 320 مليار دولار عن العام الماضي.
في الأعوام السابقة كان كثير من الدول يعتمد على قدرة البنوك المركزية على شراء السندات، التي تصدرها الحكومات، وبالتالي السيطرة على العوائد من الارتفاع، بسبب كون طبيعة السندات أن الشراء يرفع أسعارها ويخفض عوائدها، لكن الآن البنوك المركزية مقيدة في قدرتها على القيام بذلك. فمثلا مجلس الاحتياطي الفيدرالي لديه سياسة امتصاص السيولة، التي أغرق بها الأسواق منذ 2008 إلى العام الماضي، ما يعني أن عليه بيع السندات التي في حوزته. لذا فإن أي محاولة من قبل "الفيدرالي" لشراء السندات ستكون معاكسة تماما لأهدافه في امتصاص السيولة، وبالذات في مثل هذه الأوقات بوجود شبح التضخم، فإن أي محاولة لشراء السندات ستنتج عنها زيادة في السيولة وبالتالي تفاقم مشكلة التضخم وخروجها عن السيطرة.
كثير من الحكومات، بما في ذلك الحكومة الأمريكية صاحبة أعلى معدلات فائدة على المدى القصير من بين دول مجموعة السبع، ستضطر إلى دفع عوائد فائدة عالية في المرحلة المقبلة، وستبتلع هذه الفوائد نحو 27 في المائة من إيرادات الحكومة في 2033، مقارنة بـ10 في المائة حاليا، بحسب وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني. الأسوأ من ذلك أن توقعات مكتب الميزانية في الكونجرس يقدر أن حجم الإنفاق على الفائدة سيقترب من نصف العجز الإجمالي في الولايات المتحدة بحلول 2026، وأسباب ذلك تعود إلى ضعف النمو الاقتصادي المتوقع، الذي بسببه تنخفض إيرادات الضرائب الحكومية، إضافة إلى صعوبة اتخاذ القرارات السياسية المؤدية إلى ارتفاع إيرادات الحكومة.
المخرج المناسب للفيدرالي في هذه الأوقات أن يحدث ركود اقتصادي أمريكي للحد من قوة الطلب وشهية الاستهلاك وارتفاع أجور العمال، ومن ثم بعد ذلك بفترة قصيرة يتمكن "الفيدرالي" من العودة مجددا لخفض معدلات الفائدة لإنعاش الاقتصاد، ما يؤدي إلى خفض تكلفة الاقتراض عن الحكومات، وينعش الأسواق المالية.