الحكومات تستعد لمواجهة صعوبات مالية من أسواق السندات

الحكومات تستعد لمواجهة صعوبات مالية من أسواق السندات

يحذر المستثمرون الحكومات بأن تتوقع تكاليف اقتراض أعلى بكثير على مدى الأعوام المقبلة، في تحول من شأنه أن يضغط على المالية العامة ويقيد قدرة الدول على الاستجابة للأزمات.
وعلى الرغم من الانتعاش الأخير، فقد انخفضت أسعار السندات الحكومية بشدة على جانبي الأطلسي هذا العام، وهو ما يعكس جزئيا القبول المتزايد بأن أسعار الفائدة ينبغي أن تظل مرتفعة على المدى الطويل للحد من التضخم. إضافة إلى ذلك، يكافح المستثمرون لاستيعاب خطط أكبر بكثير لإصدار الديون الحكومية دون تدخل البنوك المركزية لشراء المعروض منها.
والنتيجة: عائدات سندات أعلى بكثير تربط الحكومات بمدفوعات الفائدة العادية الضخمة عندما تتحمل ديونا جديدة. في 2018، بلغت فاتورة الفائدة لدول مجموعة السبع 905 مليارات دولار سنويا وفقا لوكالة ستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني. وبحلول 2026، ستبلغ 1.5 تريليون دولار.
وقال جيم ليفيس، الرئيس التنفيذي للاستثمار في الدخل الثابت العام في شركة إم آند جي إنفستمنتس: "كان المستثمرون قلقين دائما بشأن الديون الحكومية لكنها لم تكن مشكلة على الإطلاق، لكن هذه المرة يبدو الأمر وكأنه حقيقي".
وأضاف: "لسنا قلقين فقط بشأن مقدار الاقتراض الحكومي للأشياء العادية مثل الإنفاق على الرعاية الصحية ومعاشات التقاعد". لكنه بدلا من ذلك يشعر بالقلق إزاء القضايا "الهيكلية" مثل حجم مدفوعات فوائد الديون، وتأثير تقليص البنوك المركزية لحيازاتها من السندات، والحصة الضخمة البالغة 31 في المائة من سندات الحكومة الأمريكية التي ستحتاج إلى إعادة تمويل العام المقبل.
وارتفع العائد على سندات الخزانة الأمريكية القياسية بنحو ثلاث نقاط مئوية في العامين الماضيين إلى ما يقرب من 4.5 في المائة، وفي الشهر الماضي ارتفع إلى أكثر من 5 في المائة. ويتوقع الاقتصاديون الذين شملهم استطلاع "بلومبيرج" الآن أن تحقق هذه السندات لأجل عشرة أعوام نحو 4.5 في المائة في نهاية 2025، ارتفاعا من التوقعات السابقة البالغة 3.5 في المائة في بداية يوليو.
وكانت مستويات الديون المرتفعة في صدارة المحادثات خلال الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين في مراكش الشهر الماضي، حيث قال فيتور جاسبار رئيس الشؤون المالية في الصندوق، لصحيفة "فاينانشيال تايمز": إن ارتفاع تكاليف خدمة الديون على الحكومات سيكون "اتجاها ثابتا" على المدى المتوسط وسيكون له "تأثير دائم".
على مدى عقود من الزمن، اعتاد كل من المستثمرين والحكومات على نمط موثوق إلى حد ما في أسعار الفائدة، حيث تقوم البنوك المركزية عادة بدفعها للأعلى لخفض التضخم، ولكنها سرعان ما تخفضها مرة أخرى عندما تتباطأ الاقتصادات.
والآن، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن العودة إلى حقبة ما بعد 2008 التي اتسمت فيها أسعار الفائدة بالاقتراب من 0 في المائة أمر غير مرجح. فالتوقعات طويلة الأجل لأسعار الفائدة محل خلاف كبير، لكن العوامل التي يمكن أن تحافظ على ارتفاعها تشمل مستويات عالية من الاقتراض العام بما يشمل الاستثمارات الضخمة في مشاريع مثل التحول الأخضر والبنية التحتية.
إضافة إلى ذلك، لم تعد البنوك المركزية تتدخل للحفاظ على انخفاض تكاليف الاقتراض عن طريق شراء السندات في برامج التيسير الكمي، وبدلا من ذلك تعمل على تقليص حجم ميزانياتها العمومية من خلال التشديد الكمي.
وقال جييرمو فيليسيس، الخبير الاستراتيجي في الاستثمار العالمي في شركة بي جي أي إم فيكسد إنكوم: "نحن ننتقل بشكل أساسي من الأسواق التي صممتها البنوك المركزية من خلال التيسير الكمي إلى الأسواق التي لم يتم تصميمها كثيرا من قبل البنوك المركزية لأنها تقوم الآن بالتشديد الكمي، وفي الوقت نفسه هناك كثير من الحراك المالي، لذلك هناك كثير من الإصدارات وتحتاج السوق إلى استيعاب ذلك".
وقال ستيفن ميلارد، نائب مدير المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في لندن: "لقد تركنا حقبة معدلات الفائدة الصفرية وراءنا".
ويقول صندوق النقد الدولي إن الدين العام العالمي في طريقه للاقتراب من 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العقد الحالي. ومن بين أكبر العوامل المحركة لذلك الولايات المتحدة، فالعجز الحكومي هناك في طريقه إلى تجاوز 8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد هذا العام.
وحذر صندوق النقد الدولي بشأن الديون العالمية قائلا: "يجب أن يحدث تغيير ما لتحقيق التوازن في المعادلة المالية. قد يتم تقليص الطموحات السياسية أو تغيير الخطوط الحمراء للسياسة بشأن الضرائب إذا كان للاستقرار المالي أن يسود".
الولايات المتحدة، التي لديها أعلى معدل فائدة للبنك المركزي في مجموعة السبع وقاعدة إيرادات منخفضة مقارنة بـنظيراتها التي تفرض ضرائب أعلى، في طريقها نحو زيادة كبيرة في تكاليف خدمة الديون. ويقدر بيل فوستر، نائب الرئيس الأول في وكالة موديز للتصنيف الائتماني، أن نفقات الفائدة الأمريكية كنسبة من الإيرادات الحكومية ستقفز من أقل من 10 في المائة في 2022 إلى 27 في المائة بحلول 2033.
ستكون القفزة المتوقعة في مدفوعات الفائدة أكثر حدة في الولايات المتحدة مقارنة ببعض الدول الأخرى بسبب كمية سندات الخزانة التي سيتعين تجديدها واستبدالها بسندات أخرى في 2024، التي من المرجح أن تؤدي إلى مدفوعات فائدة حكومية أعلى بكثير. وتشير توقعات مكتب الميزانية في الكونجرس إلى أن صافي الإنفاق على الفائدة سيقترب من نصف العجز الإجمالي في الولايات المتحدة بحلول 2026.
ويشك المستثمرون فيما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على شق طريقها نحو خفض عبء الديون. وتوقعات النمو الاقتصادي للعام المقبل هزيلة عند مستوى 1.5 في المائة فقط، في حين أن العائدات القياسية المعدلة حسب التضخم تقترب من 2.2 في المائة. وقال فيليسز: "هذا يخبرك بشكل أساسي أنه قد تكون هناك مشكلة في المضي قدما إذا ظلت أسعار الفائدة مرتفعة على هذا النحو".
وأضاف: "إذا شعرت السوق بأن الاستدامة المالية مهددة، فسيدفعون الحكومات إلى نوع من التكيف... من خلال المطالبة بعلاوة مخاطر أعلى لامتلاك ديونهم".
كما أن وفرة الديون الجديدة التي تضرب الأسواق تؤثر في أسعار السندات، خاصة في الولايات المتحدة. ويبلغ حجم سوق سندات الخزانة اليوم نحو 25 تريليون دولار، أي خمسة أضعاف ما كانت عليه في 2008.
وقال روهان خانا، رئيس استراتيجية أسعار فائدة اليورو في بنك باركليز: "السوق تفكر هكذا: انتظر لحظة، ليست هناك شهية أو رؤية على الإطلاق بشأن أي شد للحزام المالي في أي وقت في المستقبل القريب". وأضاف خانا أنه في الواقع، من المتوقع أن ينمو الإنفاق مع اقتراب الانتخابات في الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة العام المقبل.
كما أن التوقعات غير المؤكدة تمنع بعض المستثمرين من امتلاك سندات طويلة الأجل، نظرا إلى مخاطر أن تؤدي التوترات الجيوسياسية إلى زيادة الإنفاق العسكري وارتفاع تكاليف نقل الصناعات الاستراتيجية إلى أماكن أخرى.
وقال توماسز فييلاديك، كبير الاقتصاديين الأوروبيين في شركة تي رو برايس لإدارة الأصول: "على الحكومات أن تدرك أن عدم اليقين بشأن أسعار الفائدة طويلة الأجل قد انفجرت للتو [ارتفعت كثيرا]. سيتعين عليهم أن يكونوا أكثر حذرا في المضي قدما حيث توجد مخاطر من أن تصبح خدمة الديون غير قابلة للإدارة".
وبدا صناع السياسات على الأقل أكثر حذرا بشأن التزامات أمريكا المتزايدة الآن بعد أن بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 98 في المائة. وكان جاي باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، آخر مسؤول يثير المخاوف بشأن الوضع المالي في الولايات المتحدة.
وقال بأول في تصريحات نشرت أكتوبر الماضي: "ليس الأمر أن مستوى الدين غير مستدام. بل إن المسار الذي نسير فيه غير مستدام وسيتعين علينا الخروج عن هذا المسار عاجلا وليس آجلا".
وتتصارع أوروبا مع ارتفاع تكاليف الديون، حيث تساعد المخاوف المالية في رفع تكاليف الاقتراض في جميع أنحاء المنطقة. وتلقت المملكة المتحدة إشارة تحذيرية العام الماضي عندما أعلن المستشار السابق كواسي كوارتينج عن حزمة من التخفيضات الضريبية غير الممولة بقيمة 45 مليار جنيه استرليني، ما أثار اضطرابات في سوق السندات وأدى إلى تدخل بنك إنجلترا.
وشهدت المملكة المتحدة ارتفاعا حادا في تكاليف الفائدة، نظرا إلى أن نحو 25 في المائة من ديونها كانت في سندات مرتبطة بالتضخم. وبلغ الإنفاق على فوائد الديون 4.4 في المائة من الدخل الوطني في العام المالي الأخير في المملكة المتحدة، أي أكثر من ضعف المتوسط البالغ 2 في المائة على مدى العقدين الأوليين من القرن الحالي.
ووفقا لمعهد الدراسات المالية، سيبقى الإنفاق على فوائد الديون عند أو أكثر من 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على المدى المتوسط، أي أعلى بـ26 مليار جنيه استرليني سنويا من المستويات السابقة. وتقدر وكالة فيتش للتصنيف أن تكاليف الفائدة ستبلغ 10.4 في المائة من الإيرادات الحكومية هذا العام، بارتفاع من متوسط 6.2 في المائة بين 2017 و2021.
وفي الاتحاد الأوروبي، تعاني عديد من الدول عجزا في الميزانية أعلى من الحد الأقصى الذي حددته الكتلة بنسبة 3 في المائة، الذي من المقرر أن يصبح ساري المفعول بدءا من يناير بعد تعليقه أثناء الجائحة.
كما تتزايد المخاوف في إيطاليا. حيث اتسعت الفجوة بين تكاليف الاقتراض الإيطالية والألمانية القياسية بنسبة 0.3 نقطة مئوية إلى أكثر من 2 في المائة بعد أن رفعت حكومة رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني أهداف العجز المالي وخفضت توقعاتها للنمو لهذا العام والعام المقبل. إلا أنها تقلصت منذ ذلك الحين مرة أخرى كجزء من انتعاش سوق السندات الأوسع.
وقال ليفيس: "العجز هو السبب الذي يجعل الناس يتحدثون عن عودة حراس السندات - فكرة أن أسواق السندات ستعمل كقيد على الإنفاق المالي".

الأكثر قراءة