الرياض .. التحول الكبير
تؤكد كثير من الدراسات المتخصصة في مجال شؤون المدن وتطوراتها الاقتصادية والمعيشية، أنها تظهر كمقوم أساس من مقومات التنمية، ولكن في الوقت نفسه ورغم وضوح هذا الدور فقد هيمنت على هذا الوضع نماذج تسببت لاحقا في أعباء مالية وعدم مساواة، فلم تكن هناك علاقة واضحة بين مستويات التمدن والناتج المحلي ولا مع مداخيل الأفراد.
وطبقا لدراسة صدرت من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD أخيرا لمعالجة الظواهر السلبية لنماذج المدن الكبرى تقدم هذه الدراسة مقترحات من بينها تبني استراتيجيات تطوير تسهم في بناء بيئة وبنية جذابة لتأسيس أشكال متعددة من الشراكات تستبدل معها مفهوم استراتيجيات "من -القمة- للقاعدة" بأشكال أخرى من الاستراتيجيات التي تأخذ شكل التعاقدات بين سلطات عدة مع أهداف واضحة وجداول زمنية محددة، ومقومات وممكنات لإشراك القطاع الخاص بطريقة تبقي السلطات قريبة من حقائق السوق.
وعلى هذا المنوال، فإن هذه المفاهيم الحديثة في اقتصادات المدن تظهر في جميع استراتيجيات تطوير المدن التي أطلقها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء، ومن ذلك ما أعلنه في أبريل من هذا العام بشأن إطلاق أربع مناطق اقتصادية خاصة، لتنويع الاقتصاد السعودي وتحسين البيئة الاستثمارية، بما يعزز مكانة المملكة كوجهة استثمارية عالمية رائدة وأن هذه المناطق الاقتصادية الخاصة تتمتع بنظم تشريعية ولوائح خاصة للنشاطات الاقتصادية من شأنها أن تجعل هذه المناطق من الأكثر تنافسية في العالم لاستقطاب أهم الاستثمارات النوعية، وتتيح فرصا هائلة لتنمية الاقتصاد المحلي، واستحداث الوظائف، ونقل التقنية، وتوطين الصناعات، فهي تحقق المفاهيم التي تتبناها التوجهات الحديثة بشأن تطوير مناطق حضرية أكثر كفاءة في إدارة المال العام ولديها مهام واضحة ومجدولة، كما أنها تقترب أكثر من اقتصاد السوق ومشاركة القطاع الخاص.
وبشكل عام، فإن المنطقة الخاصة تهدف إلى إيجاد بيئة اقتصادية مواتية للاستثمار والأعمال التجارية، من خلال توفير بنية تحتية متطورة، وإجراءات إدارية مبسطة، وضمان حماية لحقوق الملكية، وتوفير فرص عمل، وهي أحد أشكال جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث يشجع المستثمرون على إقامة شركاتهم ومشاريعهم في هذه المناطق الحضرية الحديثة بهدف تعزيز النمو الاقتصادي وتنشيط الأعمال التجارية، وهذا يتحقق من خلال ما تتمتع به المناطق الخاصة بعدة عوامل تجعلها جاذبة للاستثمار، منها، القوانين واللوائح الاقتصادية المرنة التي تشجع على الابتكار وتحمي الحقوق وتسهل إجراءات الأعمال التجارية، وذلك جنبا إلى جنب مع بنية تحتية متطورة، توفر الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء والاتصالات، إضافة إلى توفير المرافق التجارية والسكنية والترفيهية، كل ذلك من أجل الوصول إلى تجربة اقتصادية مبتكرة، تعالج التحديات الاقتصادية الكلاسيكية ومن بينها التوازن بين حقوق المستثمرين وحقوق العاملين، وضمان استدامة التنمية الاقتصادية دون التأثير في البيئة والمجتمع المحلي.
في هذا السياق تظهر المنطقة الخاصة اللوجستية المتكاملة، التي تقع ضمن مطار الملك سلمان الدولي في الرياض، من أهم تلك المناطق الخاصة التي أعلن عنها، بحيث تشكل منصة لوجستية وصناعية متكاملة، تتمحور حول المستثمر، لتوفير تجربة استثمارية استثنائية، وترسخ مكانة المملكة كبوابة عبور لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، وبنظام اقتصادي خاص.
ومن هذه الزاوية ولتحقيق المفاهيم المتقدمة في اقتصادات المناطق الاقتصادية فقد أعلن مجلس إدارة الهيئة الملكية لمدينة الرياض مطلع هذا الأسبوع إنشاء مركز المناطق الاقتصادية الخاصة في مدينة الرياض، بهدف تحويلها إلى مركز إقليمي رئيس للشركات العالمية وتعزيز أثرها الاقتصادي كواحدة من أكبر اقتصادات المدن في العالم. ومن هنا يمكن القول، بل التأكيد أن المفاهيم الاقتصادية الكبرى تحتاج إلى مظلة إدارية، وحوكمة تحقق ومن ذلك تطوير خطط إنشاء المناطق الاقتصادية بما يسهم في تطوير سياسات وتشريعات وحوافز تسهم في تعزيز القيمة المضافة للرياض كعاصمة اقتصادية مهمة وكبرى وتنظيم الأعمال وجذب الشركات الإقليمية والعالمية إلى تلك المناطق، بالتعاون مع الجهات الحكومية وأصحاب المصلحة والشركاء، ولمزيد من الحوكمة، فإن دور الهيئة الملكية لمدينة الرياض هو الإشراف عليها من خلال المركز، وسيتمتع المركز باستقلال مالي وإداري، بما يمكنه من إصدار التراخيص للمستثمرين في هذه المواقع، وتقديم خدمات شاملة وفق معايير وأسس أفضل الممارسات الدولية، كما سيعمل المركز بالتعاون مع هيئة المدن والمناطق الاقتصادية الخاصة على خطط تنمية تلك المناطق والمواءمة بما يضمن منافسة الرياض للمناطق الاقتصادية العالمية، من خلال تقديم الحوافز الجاذبة وتنظيم الأنشطة الاقتصادية، وهذا التكامل في الأدوار سيسهم في ترسيخ مكانة الرياض كمركز إقليمي للشركات العالمية التي بدأت بالفعل في نقل مقارها الإقليمية. ما سيكون له دور واضح في تحقيق مستهدفات "رؤية 2030" وإيجاد فرص عمل كبيرة ما يعالج جميع المشكلات التي أشرنا إليها التي تأتي تبعا لاتساع المدن الكبرى دون تخطيط أو تنمية مجدولة.