هناك محرك جديد للاقتصاد
تلعب المعادن دورا أساسيا في تحريك الاقتصادات الوطنية، حيث تستخدم في صناعات مختلفة مثل البناء والصناعات الكيماوية والإلكترونيات والطاقة والنقل وغيرها. وتعد الدول الغنية بالمعادن من أهم الدول في الاقتصاد العالمي، ما يجعل الاستكشاف والاستخراج وتصنيع المعادن أحد النشاطات الصناعية الرئيسة على مستوى العالم. وتتفاوت أهمية المعادن من دولة إلى أخرى، فمثلا تتمتع بعض الدول بموارد طبيعية غنية في المعادن مثل الذهب والفحم والزنك والحديد والخامات المعدنية الأخرى، ويمثل تصدير هذه الموارد نسبة كبيرة من الناتج المحلي للدولة. وبالتالي، يمكن القول إن توفير المعادن يحقق ميزة تنافسية كبيرة للدولة في السوق العالمية ويساعد على تحقيق التنمية الاقتصادية.
وعلى هذا الصعيد، مر زمن طويل كانت فيه الأراضي الأمريكية مصدرا للثراء، فالمناجم -التي تم اكتشافها في القرنين الـ17 والـ18 وسميت تلك الحقبة "حمى الذهب" مع كثرة المناجم في كاليفورنيا وفي جورجيا ونورث كارولينا- استطاعت وضع الدول التي كانت تهيمن عليها تلك المناجم على سقف العالم، واستمرت الحالة على ذلك حتى مطلع القرن الـ20 عندما تم اكتشاف النفط، لقد لعبت الصناعة النفطية دورا كبيرا في تحولات الطاقة والاقتصاد، والحضارة، والقوى الدولية أيضا، وكان جل الصراع في أوروبا طيلة الحربين الأولى والثانية لتحقيق تفوق نوعي في مجال السيطرة على منابع النفط المكتشفة في ذلك الحين، لم تدخل الولايات المتحدة الصراع إلا متأخرة ذلك أنها كانت تقف على بحار من النفط، ثم توالت اكتشافات النفط بعد ذلك بكميات كبيرة في أنحاء متفرقة، وهذا منح العالم فترة من السلام، فلم تكن دولة واحدة قادرة على السيطرة على هذه الينابيع فاكتفى العالم بصراع محدود على سلامة الإمدادات، وممرات الناقلات النفطية الكبرى، ولا يزال هذا المشهد سيد الموقف، لكن الصورة بدأت تهتز قليلا مع ظهور الطلب على المعادن النادرة، التي تعد أساسية في الصناعات التكنولوجية المتقدمة، كما أنها ترتبط بالطاقة النظيفة ارتباطا وثيقا.
ويعتمد إنتاج واستخدام تكنولوجيات متقدمة وكذلك الطاقة النظيفة على هذه المعادن التي تشمل العناصر الأرضية النادرة بما في ذلك النيوديميوم والديسبروسيوم والسيريوم، التي تعد أساسية لإنتاج تقنيات توربينات الرياح والألواح الشمسية والمركبات الكهربائية وفي تصنيع المغناطيس الدائم، ويعد معدن الليثيوم المكون الأساسي في صناعة بطاريات تخزين الطاقة في السيارات الكهربائية وأنظمة الطاقة المتجددة والإلكترونيات المحمولة، كما تظهر أهمية معدن الكوبالت في إنتاج بطاريات الليثيوم أيون وخلايا الوقود والمحللات الكهربائية، وهو أحد المكونات الرئيسة في الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر وغيرها من التقنيات التي تستخدم في التسليح والصناعات الحربية المتقدمة. ويوضح تقرير نشرته صحيفة "الاقتصادية" في هذا الشأن صورة الاقتصاد العالمي بحلول 2040، حيث سيزيد الاستخدام العالمي للمعدن أكثر من 20 ضعفا مقارنة بعام 2020. وإذا كان اقتصاد الغد سيعتمد على الكوبالت وغيره من المعادن النادرة والمهمة فإن جيوش الغد ستعتمد عليها أيضا، نظرا إلى أنها ضرورية وتدخل في تصنيع الطائرات المقاتلة والذخائر الدقيقة وتكنولوجيا التخفي من الرادارات، وهذا يرسم لنا حمى جديدة في الاقتصاد العالمي، هي حمى المعادن النادرة، وإذا كانت فترة النفط مصدرا للسلم - نوعا ما - نظرا إلى انتشار منابعه حول العالم ولسياسة التوازن التي استخدمتها الدول المنتجة الكبرى، فإن حمى المعادن قد تعيد الصراع العالمي إلى أشده، لأن المناجم تقع في دول محدودة من العالم، وما يرفع من مستويات الصراع أن هذه المناجم تقع خارج الدول الصناعية الكبرى بخلاف الصين، فهي وحدها تسيطر على نحو 60 في المائة من الإنتاج العالمي للعناصر الأرضية النادرة، وتقوم فيه الصين بتكرير 80 في المائة من الكوبالت في العالم، و60 في المائة من الليثيوم وتهيمن على إنتاج المعادن الأخرى الضرورية في مجال انتقال الطاقة والتصنيع العسكري، بينما لا تمتلك الولايات المتحدة القدرة على إنتاج الكوبالت مع تراجع مخزونها من 13 ألف طن خلال الحرب الباردة إلى 333 طنا فقط 2021. ومن بين 50 معدنا تدخل ضمن قائمة المعادن الحرجة لعام 2022 تعتمد الولايات المتحدة على استيراد 12 معدنا بشكل كامل، و31 معدنا آخر تستورد أكثر من نصف احتياجاتها.
وكشفت تقارير دولية عن زيادة قدرها ثلاثة أضعاف في الطلب على الليثيوم وزيادة بنسبة 70 في المائة على الكوبالت وزيادة بنسبة 40 في المائة في الطلب على النيكل خلال الفترة من 2017 إلى 2022، وبسبب السوق المتنامية لبطاريات الليثيوم أيون لتخزين الطاقة، زاد الطلب العالمي على الكوبالت لتصنيع البطاريات بمقدار 26 ضعفا خلال العقدين الأولين من هذا القرن، وحدث 82 في المائة من هذا النمو في الصين وهذا يجعل الاقتصاد والصناعات الأمريكية عرضة لانقطاع الإمدادات المقبلة من الصين، فهل هذا يعني هيمنة الصين على الاقتصاد العالمي في المستقبل القريب، أم هي العودة للحرب العالمية؟
لا شك أن حل الصراع وتجنب الحروب يقع هذه المرة في يد إفريقيا، حيث يوضح تقرير حديث أن لدى الكونغو الديمقراطية مخزونا من الكوبالت يفوق ما لدى بقية دول العالم مجتمعة، وفي 2019 استحوذت هذه الدولة على نحو 70 في المائة من إنتاج الكوبالت العالمي، هو ما يجعل الولايات المتحدة تركز نظرها على إفريقيا وتحديدا الكونغو بوصفها مصدرا رئيسا لعديد من المعادن الاستراتيجية وفي مقدمتها الكوبالت.
ولأن الولايات المتحدة تدرك حقيقة هذا الصراع فإنها بدأت تتخذ عددا من الإجراءات لسلامة الإمدادات، حيث تشير التقارير إلى أن واشنطن تسن القوانين التي توفر للكونغو أولوية الوصول إلى الأسواق الأمريكية دون رسوم جمركية، كما ستعمل على تعزيز وضعية شركات المعادن الأمريكية العاملة في إفريقيا عامة والكونغو على وجه التحديد، لتنال حصة أكبر من احتياطيات المعادن الحيوية، لكن الصين تدرك الخطوات الأمريكية المهمة، ولهذا سعت هذا العام للتقارب مع هذه الدولة وبدء محادثات بشأن إعادة التفاوض حول عقود التعدين لاحتياطيات المعادن الثمينة في الدولة الإفريقية، وقام رئيس الكونغو فيليكس تشيسيكيدي، بأول زيارة له إلى الصين، فالبلدان يسعيان - إلى عقد صفقة بين دولة وأخرى وليست اتفاقات فردية بينها وشركات تعدين.
وخلاصة القول، إن هذا السباق الاستراتيجي نحو تأسيس العلاقات سيحسمه الأكثر ضمانا للتنمية في هذه الدولة الإفريقية، ويبدو أن الصين تسير في الطريق الصحيح.