التجارة الحرة .. حان وقت سلك الطريق العادل

التجارة الحرة .. حان وقت سلك الطريق العادل

محاولة إدارة بايدن تنظيم أجندة تجارية عالمية جديدة ليست سرا. واجه البيت الأبيض انتكاسة في تلك الجهود قبل أسبوعين عندما أجلت محادثات الصلب والألمنيوم بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى نهاية العام. لكن أمامها فرصة أخرى للوفاء بوعدها بنظام تجاري لحقبة "ما بعد الاستعمار" في القمة الافتتاحية المقبلة التي تضم 12 دولة في الأمريكتين، التي ستعقد في واشنطن.
أنشئت "شراكة الأمريكتين من أجل الرخاء الاقتصادي" - التي لا تشمل الولايات المتحدة فحسب، بل بربادوس وكندا وتشيلي وكولومبيا وكوستاريكا وجمهورية الدومينيكان والإكوادور والمكسيك وبنما وبيرو وأوروجواي - بهدف وضع حقوق الإنسان وتغير المناخ في صميم السياسة الاقتصادية. أحد الموضوعات العديدة المطروحة للمناقشة هو عملية تسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر، وتهديداتها لتلك الأهداف.
بطرائق عديدة، صمم نظام التجارة العالمي الحالي ليصب في مصلحة الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات أكثر من الدول. لكن تسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر هي من أفظعها. إنها جانب شائع جدا من اتفاقيات التجارة الحرة ومعاهدات الاستثمار الثنائية، الذي يسمح في جوهره للشركات الأجنبية التي تستثمر في دول قومية معينة بمقاضاة الحكومات على أي شيء يحجمها عن تحقيق الأرباح - بما فيها لوائح المناخ، وتدابير الاستقرار المالي، وسياسة الصحة العامة، وأي عدد من المجالات الأخرى التي تكون من اختصاص الدولة عادة.
نشأت الفكرة أوائل تسعينيات القرن الـ20، عصر العولمة المتواصلة، لتكون وسيلة لجذب الاستثمار الأجنبي إلى الدول النامية مع حماية المستثمرين في الدول الغنية من ضعف نظامي القانون والحوكمة في تلك الدول. من 2022، رفعت 1257 قضية تسوية بين دولة ومستثمر، وفق مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد"، و18 في المائة منها مرفوعة ضد دول "شراكة الأمريكتين من أجل الرخاء الاقتصادي". وهناك 73 نزاعا معلقا في تلك الدول، بمجموع مطالبات قدره 46.9 مليار دولار.
لكن التفاوتات في النظام كانت دائما شاسعة. المستثمرون الأجانب فقط من لديهم حقوق والمستثمرون الأجانب فقط من يمكنهم رفع مطالبات. ويمكن أن تشمل المطالبات ليست الخسائر الفعلية فقط، بل المستقبلية أيضا.
وفق تقرير رسمي جديد شارك في تأليفه أكاديميون من جامعتي جورج تاون وكولومبيا، إضافة إلى خبراء في التجارة من مشروع الحريات الاقتصادية الأمريكية، "نادرا ما تلجأ الشركات إلى تسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر من أجل حماية نفسها من المصادرة الواضحة لاستثماراتها أو التجاوزات المجحفة في تطبيق أحكام العدالة". بدلا من ذلك، فقد "نجحت باستمرار في استغلال الأحكام ذات الصياغة الغامضة في اتفاقيات التجارة والاستثمار التي يفرضها نظام تسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر" من أجل "بدء مطالبات ضد التدابير الديمقراطية المتخذة للمصلحة العامة والتي تعتقد أنها أضرت بمصالحها التجارية أو التهديد برفعها".
لجأت الشركات متعددة الجنسيات المشغلة للمطارات إلى تسوية المنازعات للاعتراض على تدابير الإغلاق أثناء الجائحة في تشيلي، فيما جادلت شركة كندية بأن حقوق التعدين يجب أن تفوق تدابير حماية البيئة في كولومبيا. تقاضي شركة هواوي السويد بسبب التدابير التي تحد من مشاركتها في شبكة الجيل الخامس بسبب مخاوف أمنية. في الولايات المتحدة، يعد خط أنابيب كيستون هو المثال النموذجي. رفعت شركة ترانس كندا دعوى قضائية ضد الولايات المتحدة خلال رئاسة أوباما لأنه لم يسمح لها بالحصول على تصريح للبناء، ثم سحبتها في عهد ترمب (الذي سمح لها) ثم رفعتها مرة أخرى في عهد بايدن.
لذا فنظام تسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر يشكل مصدر إزعاج للدول الغنية أيضا، غير أن شركاتها تستفيد عادة. أما للدول الأفقر، فقد يكون النظام مدمرا. يمكن أن تؤدي الإجراءات التي تعد مفيدة للمصلحة العامة (مثل رفع معايير الصحة أو العمل) إلى مطالبات بمليارات الدولارات التي لا يمكنها دفعها.
القلق الكبير الآن هو أن مثل هذه الاتفاقيات يمكن أن تستخدم للحيلولة دون التحول إلى الطاقة النظيفة. رفعت شركات وقود تقليدي ومستثمرون عددا من قضايا التسوية، تقدر بمليارات. قدر أكاديميون أن جهود تغير المناخ العالمي يمكن أن تؤدي إلى مطالبات بقيمة 340 مليار دولار (مطالبات دعوى خط كيستون وحدها تبلغ 15 مليار دولار).
بالنظر إلى كل هذا، فلا عجب أن دولا كثيرة، منها الولايات المتحدة وكندا والمكسيك وبعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وجنوب إفريقيا والهند وإندونيسيا والإكوادور تحد اتفاقيات تسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر المستقبلية أو توقفها وحتى تحاول الانسحاب من اتفاقيات سارية. اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، مثلا، التي حلت محل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا"، تتضمن حكما يلزم الشركات استنفاد جميع سبل الانتصاف المحلية قبل اللجوء إلى نظام تسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر.
لكن إذا استغل بايدن قمة شراكة الأمريكتين من أجل الرخاء الاقتصادي وسيلة لإنهاء نظام تسوية المنازعات بين الدولة والمستثمر على مستوى الأطراف المتعددة، فسيكون ذلك بمنزلة بيان كبير عن نموذج التجارة لحقبة ما بعد الاستعمار الذي كانت ممثلة التجارة الأمريكية كاثرين تاي تدعو إليه، نموذج سيضع النمو الشامل والعادل، بدلا من نمو الناتج المحلي الإجمالي وحده، في قلب نظام تجاري خضع لإصلاحات.
دعا بعض الأكاديميين وصناع السياسات إلى مثل هذا الانسحاب الجماعي من الاتفاقية ليكون طريقة تخفف مخاوف أن يرى المستثمرون انسحاب الدول على حدة على أنه علامة على الضعف. وفقا لجوزيف ستيجليتز الحائز جائزة نوبل، لا توجد أدلة تذكر على أن الدول الموقعة على معاهدات تسوية المنازعات شهدت استثمارات أجنبية مباشرة أكثر أو أفضل من الدول غير المشاركة، وقال: "هذه الاتفاقيات لم تف بوعدها".
يضع مؤلفو التقرير الرسمي عددا من الطرائق التي يمكن للدول، بما فيها دول شراكة الأمريكتين، الانسحاب بشكل قانوني حتى من الاتفاقيات السارية. بلا شك سيثير هذا مخاوف المستثمرين بشأن سيادة القانون واستمرارية الاتفاقات، التي قد تخلف تأثيرا في السوق. لكن الاتفاقيات نفسها خلفت تأثيرات سلبية كثيرة في العالم الحقيقي. حان الوقت لنظام أكثر عدلا.

الأكثر قراءة