ترميز الجسد .. إرضاء الذات عبر إيلامها
الوشم ممارسة بشرية قديمة قدم الوجود الإنساني على وجه الأرض، أعادتها رياح العولمة بقوة في الأعوام الأخيرة إلى أقطار عربية عدة، فانتشر كموضة على نطاق واسع في الأوساط الشبابية، رغم ما تلقاه هذه الممارسات من تحفظ، بلغت درجة إقرار تشريعات تقضي بمنعها، داخل بعض المجتمعات، بالموازاة مع ذلك تكاثرت مدارس تعليم فنون الوشم في الدول التي تشهد إقبالا متزايدا على فن يعمل، بحسب روايات أصحابه، على تحويل الجسد الإنساني إلى لوحة تعبيرية.
يعرف الوشم بأنه رسم أو علامة تطبع على بشرة إنسان، من خلال إدخال الخضاب بوساطة المثقب في الطبقة الخارجية من البشرة، ما يتسبب في قدر ضئيل من النزيف. تجرى العملية في العادة، دون استخدام أي مخدر، ما يحدث ألما يراوح ما بين الشدة والخفة، بحسب حجم الرسم ومدى احترافية الواشم ونوعية المواد المستعملة... وحتى المكان المختار لوضع الرسم، فالوشم في الوجه غير الظهر وفي البطن أو الصدر غير الأكتاف أو الأرجل.
تاريخيا، يصعب التأريخ بدقة للوشم كشكل فني قديم ظهر في ثقافات متنوعة عبر التاريخ، ما حوله إلى إرث اجتماعي، تعددت دلالاته واختلفت من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، وتطورت مع تقدم البشرية في مدارج الحضارة، لتأخذ معاني جديدة مرتبطة بمستحدثات العصر (شعار رياضي، رمز موسيقي...)، فهذه الأشكال والخطوط والنقوش البسيطة المدفونة تحت الجلد تحمل في طياتها رسائل وإيحاءات، وأحيانا شفرات خاصة، تبقى عصية على الفهم من لدن العامة.
تضاربت الروايات حول الموطن الأول لظهور الوشم، فرأي ينسبه إلى قدماء المصريين، بعد اكتشاف أثري حديث لوشم على زوج من الموميات عمره خمسة آلاف عام، ورأي ثان يربطه بمعتقدات سائدة لدى القبائل المنشرة في أدغال إفريقيا، وثالث يربطه بمناطق في الإمبراطورية الصينية القديمة، ورابع يعتمد على كلمة "تاتو" Tattoo التي يعدها تحويرا لكلمة Tatau في الحضارة البولينيزية ليؤكد أن ابتكاره كان في دول وجزر المحيط الهادي.
مهما يكن من أمر، يبقى الثابت أن اقتران الوشم بالتزين والجمال متأخر جدا، فالشعوب والحضارات القديمة استعملت الوشم لغايات أخرى مثل العلاج والحماية من الأرواح الشريرة والقضاء على السحر وإظهار الشجاعة... فلدى قبائل في أمريكا اللاتينية مثلا طبيب (ساحر) القرية يتولى طقوس الوشم في أماكن الألم في جسم الإنسان، حيث يسود الاعتقاد بكون الوشم درعا مضادة للأمراض. وشاع في مصر القديمة تزيين بطن المرأة الحامل بوشم، يتمدد مع انتفاخ بطن الحامل، كشكل من أشكال الحماية الرمزية للطفل الذي لم يولد بعد. ويرتقي الوشم لدى قبائل إفريقيا الوسطى ليصبح وسيلة للتمييز بين أفرادها.
تدريجيا، صار الوشم أسلوبا تعبيريا عن الجمال، كما هو الحال لدى الأمازيغ في شمال إفريقيا حيث تزين الجدات والأمهات وجوههن وأيديهن بخطوط ورموز خضراء اللون، غير عادية، تضفي على أجسامهن مسحة جمالية فريدة. وكأن سيدات الأمازيغ بهذه الممارسات يحاكين الطبيعية، بإعادة إنتاجها على أجسادهن عن طريق الوشم. مع اختلاف الرموز من حيث الدلالة، فوشم الشجرة معناه القوة، والعنكبوت تشير إلى الخصوبة، فيما تدل النحلة على الطاقة الخارقة، وتوحي الأفعى إلى القدرة على الشفاء من جميع العلل، ويرمز الخطان المتوازيان على الدقن إلى ثنائية الخير والشر داخل روح كل إنسان.
الوشم لدى الأمازيغيات قرين طقوس معينة وأزمنة محددة، فالواشمة على أجساد النساء لا تأخذ أي مقابل مادي عملها، وإن كان فبالكاد يغطي تكاليف المواد اللازمة للعملية من إبرة وكحل وبقايا فحم وماء مملح وأعشاب للتعقيم، أما الموشومة فلا تستطيع الوشم إلا عند البلوغ أو قبيل الزواج أو بعد الزواج، بذلك تكون هذه المجتمعات قد اهتدت إلى صيغ تواصلية أساسها ترسيم العلامات على الأجساد، فوشوم الفتاة البالغة مثلا قد تكون عبارة عن نداء صامت للتزاوج، أما وشم المرأة المتزوجة التي يتخذ شكل مثلث مع نقاط تفيد أوتاد خيمة تمثل المسكن، فرسالة على الوفاء لبيت الزوجية وألم غياب الزوج وفرقة الأعوام، بسبب الهجرة أو الموت.
عادت ظاهرة الوشم من جديد في العصر الراهن، وشاعت لدى الإناث والذكور لكن بدلالات أخرى مرتبطة بتقليد أساطير كرة القدم أو نجوم الفن أو أبطال الرياضات العنيفة... فهو لدى الشباب صورة لإظهار قوة وهيبة الجسد للآخرين، بينما تتخذه الفتيات أسلوبا يحسن من جمال وأناقة الجسد. أخيرا، ظهر وشم أنثوي يعرف باسم "حبر الثدي" يبتكر رسوما تصنع جمالية جديدة لندبات استئصال الثدي، وتساعد على تحقيق نوع من المصالحة مع الذات، بعد صراع عنيف مع المرض الخبيث.
عالميا، تصالح العالم مع الوشم بعدما كان أصحاب الوشوم يعانون تمييزا في سوق العمل، فضلا عن حظر ممارسته، لدواع صحية، في مدينة نيويورك ما بين 1961 حتى 1997. كما أصدرت بريطانيا أواخر عقد الستينيات قانونا يقضي بمنع الوشم بعد اجتياح حركة الهيبيزم ربوع أوروبا، لكن القرار بقي بلا أثر واضح، خاصة بعد الانتشار الكبير للظاهرة في الولايات المتحدة، حيث أضحت ولاية كاليفورنيا عاصمة الوشم في العالم.
بخلاف اليابان التي تمانع في الاعتراف بأصحاب الوشوم في سوق الشغل، فضلا عن منعهم أحيانا من دخول المسابح العمومية أو قاعات اللياقة البدنية. وذلك عائد إلى اقتران الوشم على الجسد في الذاكرة الجماعية لليابانيين بمنظمة مافيا "ياكازا". وقبل ذلك بتاريخ أسود لفن "الإيروزومي"، المنتشر ما بين القرنين الـ17 والـ19 في أوساط الطبقات الدنيا من المجتمع، يقدم عشاقه على تحويل أجسادهم إلى لوحات فنية موشومة، يتولون بيعها أجلا بقبض ثمنها قبل موتهم. ثم جاء قرار رسمي عام 1870 يقضي بمنع كل تلك الممارسات، ما حد من ظاهرة الوشم في بلاد الساموراي.
بقي أن نشير إلى أن الظاهرة ليس حكرا على العامة، فقط شملت أثارها حتى صفوة القوم، فقد كانت وشوم على أجساد ساسة أمثال الإمبراطور الروسي بطرس الأكر والقائد الفرنسي نابليون بونابارت والرئيس الأمريكي جون كندي والزعيم البريطاني ونستون تشرشل... وكان الملك إدوارد السابع يضع وشم تنين على أحد ساعديه ووشم مرساة سفينة على الساعد الآخر، وزين الرئيس ترومان كتفيه بوشم لتنين خصم، وكان للزعيم السوفياتي جوزيف ستالين وشم ملون على جسده.
اختلف علماء الإنسانيات في تلقي الوشم بين من يرى في الأمر تعبيرات جسدية صامدة، بقدرتها على ملازمة الإنسان حتى يموت في تحد لجميع القوى التي تواجه الفرد ما عدا سلطة الموت، وبين من يعد المسألة تعذيبا للذات (سادية على النفس) للحصول على لذة وإثارة يعجز صاحبها على تحقيقها واقعيا، فيكتفي بوشم رموز القوة والجمال والإثارة على جسده لإبراز ما يفتقده في نفسه.