السياسة المالية والتضخم والديون
نقاط عدة جديرة بالاهتمام ظهرت في نقاشات المديرين التنفيذيين في صندوق النقد الدولي مع إخصائي الصندوق والمسؤولين عن إعداد نشرة "المراقب المالي" لأكتوبر، حيث تم التطرق إلى أمور مالية واقتصادية عدة من منظور خبراء الصندوق وتوقعاتهم حول مستقبل الاقتصاد العالمي، ونظرا لما يتمتع به هؤلاء المديرون من خبرة واطلاع على بيانات ودراسات اقتصادية عالمية فقد يكون من المناسب الاستئناس بآرائهم وتوقعاتهم المستقبلية.
فبينما يشيد مديرو الصندوق بالمتانة والمرونة لبعض الاقتصادات الكبرى، كالولايات المتحدة، إلا أنهم يقرون بوجود تحديات كبيرة تعترض طريق دول أخرى كثيرة في سبيل العودة إلى مستويات الإنتاج ما قبل أزمة كورونا.
أبرز تلك التحديات مصدرها السياسات النقدية المتشددة اللازمة لمحاربة التضخم، وضعف السياسات المالية في مواجهة مستويات الدين المتصاعدة، إلى جانب التأثيرات السلبية للانقسام الاقتصادي بين الدول، ما يعرف بالانقسام الجيواقتصادي الذي قام الصندوق بإجراء دراسات حوله، من حيث تأثيره في نمو الناتج المحلي العالمي وسلاسل الإمداد ووفرة المواد والمعادن اللازمة لتحقيق مستهدفات اتفاقية باريس للمناخ وغيرها من برامج حماية البيئة، حيث تشير تقديرات الصندوق إلى أن هناك نقصا يصل إلى 30 في المائة من حجم الاستثمارات اللازمة في مجالي المركبات الكهربائية والطاقة المتجددة، المجالين اللذين يعتمدان على معادن مهمة كالنحاس والنيكل والكوبالت والليثيوم. ففي حال وجود تكامل اقتصادي عالمي، بدلا من الانقسام الحالي والمتوقع مستقبلا، من المتوقع ارتفاع أسعار هذه المعادن الأربعة بنحو 90 في المائة قبل 2030، وبوجود انقسام اقتصادي سترتفع التكلفة إلى نحو 300 في المائة خلال الفترة ذاتها.
يرى صندوق النقد الدولي أن الاستقرار المالي العالمي معرض لمخاطر عالية رغم التدخل السريع والحاسم لاحتواء الأزمات البنكية في كل من الولايات المتحدة وسويسرا في مارس من هذا العام، وسبب هذا التخوف مصدره استمرار معدلات التضخم عند مستويات عالية، ما يعني احتمال استمرار معدلات الفائدة المرتفعة فترة طويلة وما ينتج عن ذلك من عمليات تصحيحية في الأسواق المالية. يضاف إلى هذه المخاطر احتمال حدوث مزيد من الارتفاعات في أسعار السلع بسبب التقلبات المناخية والمخاطر السياسية في مناطق عدة حول العالم.
إحدى أهم الملاحظات التي أبداها مديرو الصندوق فيما يخص السيطرة على التضخم، هي أنه رغم إقرارهم بأن المسؤولية تقع على عاتق البنوك المركزية بشكل أساسي إلا أن للسياسة المالية دورا مهما آخر في السيطرة على التضخم من حيث الحد من حجم الطلب في الاقتصاد، ما يرفع من جدوى السياسة النقدية وفاعليتها في تحقيق أهدافها، ويتحقق ذلك بالطبع من خلال التحكم في الصرف ورفع إيرادات الدولة، إلى جانب الحاجة إلى إعادة جدولة ديون بعض الدول بالتعاون بين الدول.
يتضح من مناقشات الصندوق أن هناك شيئا من الإحباط فيما يخص سير برامج حماية البيئة والعمل على تحقيق مستهدفات المناخ، لكون كثير من البرامج يتطلب استثمارات ومصروفات متنوعة من الصعب القيام بها في الفترة المقبلة، بسبب التحديات المالية في كثير من الدول، إلى جانب التباين في الأولويات بين بعض الدول ومشاريع البيئة، وبروز بعض الحالات التي تشكل فيها الصناعات الخضراء وسياساتها مخالفة لأنظمة التجارة العالمية، في جانب الحركة التجارية وتدفق الأموال بين الدول.
لذا ينظر الصندوق إلى نوعين من الفجوات:
الأولى فجوة التطلعات وتعني الاختلاف بين التزام الدول ومشاركتها في برامج البيئة مقابل متطلبات اتفاقيات المناخ.
والفجوة الثانية هي فجوة السياسة والتنفيذ، وتشير إلى التباين بين المستهدفات من قبل الدول وبين ما هو متحقق على أرض الواقع.
مرة أخرى، يعزو الصندوق معظم هذه التحديات إلى الأوضاع المالية العالمية، التي من المتوقع أن تضيف برامج البيئة بشأنها ديونا إلى بعض الدول بما يعادل 40 إلى 50 في المائة من حجم الناتج المحلي، ومن المتوقع زيادة الدين العام العالمي بما يعادل نقطة مئوية من حجم الناتج المحلي العالمي سنويا على المدى المتوسط، كما أنه بنهاية العقد الحالي يتوقع أن يصل حجم الدين العام العالمي إلى نحو 100 في المائة من حجم الناتج العالمي.