رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الاقتصادات .. المشهد غير آمن

ينظر العالم إلى انعدام الأمن الغذائي كأحد أهم العوامل المهددة للاستقرار، نظرا لتداخله مع جملة من القضايا السياسية والاقتصادية والبيئية. وخلال الفترة الماضية تعرضت قدرة الدول على تأمين غذاء شعوبها لهزات متتالية مختلفة الأسباب، فاقمت من حدة تأثير الأزمة في الاقتصاد العالمي. وقد تعرض الأمن الغذائي العالمي لصدمات متتالية في ظل المتغيرات الدولية، وتوالت الأزمات التي هددت استقرار الأمن الغذائي خلال الفترة الماضية، بداية من انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب مرورا بإعلان الحكومة الهندية حظر صادرات الأرز.
ويعد الأمن الغذائي من المفاهيم الضاربة في القدم التي لازمت حياة الإنسان منذ بداية البشرية، وظهرت أنشطة اقتصادية واجتماعية مثل الصيد والزراعة وغيرها مما كان هدفه تأمين القوت والبقاء على قيد الحياة، ثم تطور المفهوم مع توسع الحياة البشرية إلى مجتمعات وتجمعات كبيرة، فظهر مفهوم التخزين والادخار، وبنيت صوامع الحبوب ومخازنها منذ الحضارات القديمة. ويختلف هذا التعريف عن المفهوم التقليدي للأمن الغذائي الذي يرتبط بتحقيق الاكتفاء الذاتي باعتماد الدولة على مواردها وإمكاناتها في إنتاج احتياجاتها الغذائية محليا. ويرتبط الأمن الغذائي بمفهوم آخر، هو السيادة الغذائية، التي تعني حق الشعوب في تحديد سياساتها الزراعية لتستجيب لحاجاتها وأولوياتها الغذائية، أو حق الشعوب في تغذية سليمة تناسب حاجاتها وثقافتها. ويميز المتخصصون بين مستويين للأمن الغذائي: مطلق ونسبي، فالأمن الغذائي المطلق يعني إنتاج الغذاء داخل الدولة الواحدة بما يعادل أو يفوق الطلب المحلي، وهذا المستوى مرادف للاكتفاء الذاتي الكامل، ويعرف أيضا بالأمن الغذائي الذاتي. أما النسبي فيعني قدرة دولة ما أو مجموعة من الدول على توفير السلع والمواد الغذائية كليا أو جزئيا.
ومن هذه الخلفية لم يغب القلق عند المشرعين في الاتحاد الأوروبي بشأن ما يعرف بـ"الأمن الاقتصادي"، وهذا القلق ينسحب في الواقع على كل الدول المتقدمة وتلك التي تتمتع باقتصادات كبيرة. فهذا النوع من الأمن تعرض لضربات خطيرة في العقود الماضية. وقبل ثلاثة أعوام فقط، شهدت سلاسل التوريد واحدة من أكثر الأزمات خطورة، ما عمق المشهد "غير الآمن" للاقتصاد العالمي كله، وفي مقدمته الاقتصاد في الكتلة الأوروبية التي تضم 27 بلدا.
الأسباب متعددة بالطبع لتراجع مستوى الأمن الاقتصادي، بل دخوله المرحلة الحساسة منذ أعوام عدة. فالعالم بات مضطربا حقا، والتفاهمات المحورية صارت بعيدة عن العلاقات الدولية عموما، ولا سيما بين دول مؤثرة في المشهد الاقتصادي العالمي كله. وأفضل دليل على ذلك، العلاقة المضطربة جدا بين أكبر اقتصادين في العالم الأمريكي والصيني.
لا يمكن تحقيق الأمن الاقتصادي على الساحة الأوروبية إلا عبر أدوات أساسية، على رأسها تعزيز النمو والوصول به إلى المستوى الذي يضمن استمراريته. بمعنى ألا يكون عابرا بل مستداما. فخلال الأعوام الماضية جاء النمو في بعض الفترات على شكل طفرات سرعان ما تخبو. وإلى جانب ذلك، على الاقتصادات عموما أن تتسم بالمرونة، فهذه الأخيرة تشكل أساسا لتطوير منظومة أمن يمكنها الصمود أمام الأزمات العابرة، أو تلك التي تطول زمنا أحيانا، مثل الموجة التضخمية وتبعات السياسات المالية المرتبطة بها. ويبقى الالتزام بالتطوير التكنولوجي أساسا آخر لدعم مجهودات توفير الأمن الاقتصادي. فتطبيق التكنولوجيا المتطورة، يختصر الزمن المستهدف لتحقيق الأمن المشار إليه. غير أن هذا الأمر لا يزال خاضعا بصورة أو بأخرى للإمكانات وسلاسل التوريد والابتكارات وغير ذلك من أدوات بعضها متوافر وبعضها الآخر يحتاج إلى إعادة صياغة من جديد.
ليس واضحا حتى الآن مدى نجاعة التحركات على الساحة الهادفة إلى ما سماه المشرعون الأوروبيون "الدفاع ضد التجارة غير العادلة"، فلا تزال هذه المعركة دائرة منذ عقدين على الأقل، كما أن هناك مسارات في المعركة المشار إليها معقدة بعض الشيء. ومشكلة التجارة غير العادلة ليست جديدة، وتعود أساسا إلى انطلاق قوى ناشئة تمكنت من الاستفادة من التسهيلات التجارية العالمية بحكم توصيفها كبلدان ناشئة، واستمرت حتى اليوم تجني ثمار هذه التسهيلات.
وفي كل الأحوال، تتسبب المعارك التجارية بين القوى الكبرى في مزيد من الاضطرابات للاقتصاد العالمي، ما يعمق بالطبع من حالة عدم الأمان الاقتصادي عموما.
ونبقى في الساحة الأوروبية التي تمثل مؤشرا مهما في هذا المجال، فإذا كان الاقتصاد الأوروبي يريد الوصول إلى أفضل مستوى من الأمن، فلا بد له من التعاون مع الحلفاء، وهذا يتم بالفعل. فعلى سبيل المثال، وضعت هولندا سلسلة من القوانين المقيدة لتصدير أشباه الموصلات المتقدمة للصين بطلب مباشر من الولايات المتحدة. والأمن ينسحب على كثير من القطاعات المهمة وتلك التي تعد استراتيجية. ولا بد من التأكيد هنا على أن الاقتصادات الكبرى، ومنها اقتصاد الاتحاد الأوروبي لا تزال عرضة للكسور، فالاقتصاد الأمريكي مثلا، الذي يتمتع بقدرات مرنة أكبر من اقتصاد أوروبا، عرضة لهذه الكسور، ولا يوجد حل إلا بالتعاون بين الحلفاء، وعدم الوصول إلى حرب تجارية فيما بينهم، كما حدث خلال فترة رئاسة دونالد ترمب للولايات المتحدة.
وفي كل الأحوال، تبقى تقوية الاقتصادات الساعية لجلب الأمن إليها، العامل الأهم، والمرونة الكبيرة الأداة الأساسية، والتعاون بين الحلفاء المسار الأفضل. إنها عملية معقدة تتطلب وقتا، لكنها في النهاية ضرورية لتحقيق هذا الأمن الذي بات في الأعوام الماضية ليس عرضة للخطر فقط، بل حتى للزوال في بعض الدول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي