النمو يتباطأ والمسكنات قصيرة
الناظر تاريخيا إلى التطورات الاقتصادية، التي مرت بها الصين خلال ما يقارب الـ40 عاما الماضية، لا بد أن يقف ويتذكر التجربة الصينية في الإصلاحات الاقتصادية، التي بدأت منذ 1978 تحت قيادة دنج شياوبينج، التي ما زالت محل إعجاب كثير من المحللين والدارسين والمتخصصين في علوم الاقتصاد. فقد استطاع الحزب الشيوعي الحفاظ على منهجيته السياسية القائمة على مفهوم الاقتصاد المخطط مع فتح البلاد للاستثمارات الأجنبية والتجارة الدولية، ونجح في ذلك بإنشاء مناطق اقتصادية خاصة ومناطق تجارة حرة لجذب رؤوس الأموال والتكنولوجيا والخبرات من جميع أنحاء العالم، ومكنت هذه الخطوة من تعزيز التكامل الاقتصادي للصين مع باقي دول العالم وزيادة حجم التجارة والاستثمار، وصاحبتها إجراءات مهمة شملت تطوير الأسواق المالية وقطاع البنوك والتأمين.
وتم إنشاء بورصتي شنغهاي وشنتشن لتعزيز التمويل وتوفير فرص استثمارية للشركات المحلية والأجنبية، ولدعم نمو الشركات وتحفيز الابتكار، وتم كذلك إجراء إصلاحات هيكلية في القطاعين الصناعي والزراعي في الصين لتحسين كفاءة الإنتاج وتحديث التكنولوجيا في الصناعات التقليدية مثل صناعة الحديد والصلب والفحم.
كما تم تشجيع التحول إلى صناعات ذات قيمة مضافة عالية مثل صناعة التكنولوجيا الحديثة والسيارات. في قطاع الزراعة، تم تحسين إدارة المزارع وتعزيز التكنولوجيا الزراعية لزيادة الإنتاجية وتحسين جودة المحاصيل، وكانت هذه الإصلاحات العميقة ممكنة بشكل فاق التوقعات، جعلت الصين الدولة الأسرع نموا منذ الثمانينيات، إذ بلغ متوسط معدل النمو السنوي 10 في المائة من 1978 إلى 2005، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين 2.225 تريليون دولار في 2005.
هذا النمو المتصاعد واجه منذ بداية العقد الماضي مشكلتين كبيرتين، كانت التوترات التجارية مع الولايات المتحدة أولاهما، وجاءت جائحة كوفيد - 19 ثانيا، لتتسبب هذه المشكلات في انخفاض الطلب العالمي على الصادرات الصينية، وبالتالي تباطؤ النمو الاقتصادي بشكل توقع معه البعض حدوث انكماش أثناء الأزمة الصحية، وبقيت احتمالات الركود قائمة حتى اليوم وفي المستقبل القريب. لكن هناك من يرى أن التحولات الاقتصادية في المسار الصيني بدأت منذ التوجه من نمو قائم على التصدير إلى نمو يعتمد على الطلب المحلي.
وسعت الحكومة إلى تعزيز الاستهلاك المحلي وتنويع مصادره، خاصة عندما بدأ التوتر مع الجانب الأمريكي يزداد وأصبح أكثر شراسة، فتركزت التحولات لدعم قطاعات مثل التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة وتشجيع رواد الأعمال والابتكار، من خلال إنشاء مراكز للابتكار والأبحاث في مناطق مثل شنغهاي وشنتشن، لكن النمو الذي يعتمد على الطلب المحلي يتطلب إنفاقا متعاظما وتحفيزا شبه مستدام، ما يؤدى في العادة إلى ارتفاع مستوى الديون الحكومية.
ورغم أن الصين استطاعت من خلال هذه الاستراتيجية مجابهة التحديدات العالمية، لكنها عززت من رغبة الحكومات المحلية في الاستثمار وتحمل مبالغ ضخمة من صكوك الدين الممولة عن طريق البيع للمطورين، الذين بالغوا في البناء على وصف أحد المعلقين الصينيين، وتشير بعض التقارير إلى أن هناك نحو 390 مليار دولار من الديون على المطورين قد لا يتمكنون من سدادها، وهو ما يجعل أكبر شركاتها العقارية تتجه نحو الإفلاس، ووصلت البطالة بين الشباب إلى مستوى قياسي، وهناك واحد من كل خمسة عمال شباب عاطل عن العمل.
والسؤال المطروح هنا، ما مسارات العلاج المتوقعة؟ البعض يرى الهروب إلى الأمام هو الحل، من خلال رفع هدف العجز في ميزانية الصين لـ2024 إلى ما يتجاوز 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك بإصدار مزيد من السندات لإنعاش الاقتصاد، ويؤكد هذا الاتجاه ما نشرته تقارير عالمية من أن البرلمان الصيني يدرس الموافقة على إصدار ديون سيادية إضافية بقيمة تزيد قليلا على تريليون يوان "137 مليار دولار" عندما يختتم اجتماعه الذي استمر خمسة أيام وبدأ في 20 أكتوبر. وقد طلب من الحكومات المحلية إكمال إصدار حصة 2023 البالغة 3.8 تريليون يوان من السندات المحلية الخاصة بحلول سبتمبر لتمويل البنية التحتية، ويقول بعض المستشارين "إن الحكومة المركزية لديها مجال لإنفاق المزيد، لأن ديونها كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 21 في المائة فقط، أي أقل بكثير من 76 في المائة للحكومات المحلية".
وعلى الصعيد الآخر، هناك مسارات جديدة يطالب بها البعض في الداخل الصيني، من بينها إصلاحات للمساعدة على إطلاق العنان لمحركات نمو جديدة تتجاوز الاستثمار في العقارات والبنية التحتية. والتركيز ينصب على السياسات التي تحفز التوسع الحضري والقدرة الشرائية للأسر، وتحد من الاعتماد على الاستثمار وتكافؤ الفرص بين المؤسسات المملوكة للدولة والشركات الخاصة، وهناك من يرى المشكلة أنها مشكلة اختيارات بين الاحتياجات قريبة المدى، ومزيد من الإصلاحات الطموحة، وحتى يتضح المسار الذي سيختاره الاقتصاد الصيني يحذر الاقتصاديون من فترة طويلة من الانكماش والنمو الراكد الذي يفشل في رفع مستويات المعيشة لسكان البلاد البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة.
هنا لا بد أن نذكر مقولة اقتصادية شهيرة، هي أن "المستقبل سيحتفظ بصورة من الحاضر"، بمعنى أن الحالة الاقتصادية التي ستكون عليها البلاد في المستقبل تحمل في ثناياها النقاشات القائمة اليوم، فما ستكون عليه الصين في المستقبل هو نتيجة للقرارات التي سيتم اتخاذها اليوم، هناك اليوم تخوف واضح في الصين من هروب الأموال نحو العوائد التي تلمع في سماء اقتصادات عالمية أخرى وكبح جماح الديون فجأة. والحد من التمويل السهل الذي يغذي النمو قد يكون أمرا خطيرا، لكن التماهي مع الديون يؤدي إلى تعطيل عجلة الإصلاحات العميقة الضرورية.