خطر التقدم التكنولوجي .. أولوية عالمية كالحروب النووية
عندما عمل آلان تورينج في بلتشلي بارك خلال الحرب العالمية الثانية، ساعد على حل لغز ماكر: فك شفرة إنجما "غير القابلة للفك" الخاصة بألمانيا النازية. وفي الشهر المقبل، تستضيف الحكومة البريطانية مؤتمرا دوليا في المنزل الريفي نفسه في باكينجهامشاير لاستكشاف مشكلة مشابهة ومحيرة للعقل: التقليل من المخاطر الكارثية المحتملة للذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، حتى بالنسبة إلى عالم رياضيات عبقري مثل تورينج، سيكون هذا تحد صعب.
في حين أن الجهاز الكهروميكانيكي الذي بناه تورينج كان قادرا على أداء وظيفة واحدة فقط لفك التعليمات البرمجية بشكل جيد، فإن نماذج الذكاء الاصطناعي للتنبؤات المستقبلية اليوم تقترب من أجهزة الكمبيوتر "العالمية" التي لم يتخيلها، وقادرة على القيام بوظائف أكثر بكثير.
والمعضلة هنا هي أن التكنولوجيا القادرة على تعزيز الإنتاجية الاقتصادية والبحث العلمي قادرة أيضا على تصعيد الحرب السيبرانية والإرهاب البيولوجي.
كما أصبح واضحا من الجدال العام الشرس الذي اندلع منذ إطلاق شركة أوبن إيه آي لبرنامجها للدردشة تشات جي بي تي في نوفمبر الماضي، فإن نطاق المخاوف التي يثيرها الذكاء الاصطناعي يتوسع بسرعة.
فمن ناحية، يستنبط أنصار "السلامة" التطورات الأخيرة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ويركزون على المخاطر الشديدة. حتى أن رسالة مفتوحة وقعت في وقت سابق من هذا العام من قبل عشرات من كبار الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي في العالم، بمن فيهم الرؤساء التنفيذيون لشركات أوبن إيه آي، وأنثروبيك، وديب مايند التابعة لجوجل، التي تعمل على تطوير أقوى النماذج، أعلنت أن: "التخفيف من خطر الانقراض بسبب الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون بمنزلة أولوية عالمية إلى جانب مخاطر اجتماعية أخرى كالجوائح والحرب النووية".
ومن الناحية الأخرى، ينزعج المدافعون عن "الأخلاق" بسبب المخاوف الحالية المتعلقة بالتحيز الخوارزمي، والتمييز، والتضليل، وحقوق النشر، وحقوق العمال، وتركز سلطة الشركات. حيث يرى بعض الباحثين، مثل إميلي بيندر، وهي أستاذة في جامعة واشنطن، أن الجدل حول المخاطر الوجودية للذكاء الاصطناعي هو خيال علمي مصمم لصرف الانتباه عن مخاوف اليوم.
تقوم عديد من مجموعات المجتمع المدني وشركات التكنولوجيا الصغيرة، التي تشعر بأنها مستبعدة من الإجراءات الرسمية في بلتشلي بارك، بتنظيم أحداث هامشية لمناقشة القضايا التي تعتقد أنه يتم تجاهلها.
يوافق مات كليفورد، المستثمر البريطاني في مجال التكنولوجيا الذي يساعد على وضع جدول الأعمال الخاص بقمة سلامة الذكاء الاصطناعي، على أن القمة ستعالج فقط مجموعة واحدة من المخاوف. لكنه يرى أن المنتديات والمؤسسات الأخرى تتصارع بالفعل مع عديد من القضايا الأخرى. قال لي: "لقد اخترنا أن يكون التركيز محدودا، ليس لأننا لا نهتم بكل الأشياء الأخرى، لكن لأنه الجزء الذي يبدو ملحا ومهما ومهملا".
على وجه الخصوص، يقول إن المؤتمر سيستكشف إمكانات ومخاطر الجيل التالي من نماذج التنبؤات المستقبلية، التي من المرجح أن يتم إصدارها خلال الأشهر الـ18 المقبلة. وحتى مبتكرو هذه النماذج يكافحون في التنبؤ بقدراتها. لكنهم على يقين من أنها ستكون أقوى بكثير من تلك الموجودة اليوم، وستكون متاحة تلقائيا لملايين عديدة من الناس.
كما أوضح داريو أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة أنثروبيك، في شهادته التي تقشعر لها الأبدان أمام الكونجرس الأمريكي في يوليو، فإن تطوير نماذج أقوى للذكاء الاصطناعي قد يحدث ثورة في الاكتشافات العلمية، لكنه أيضا "سيوسع بشكل كبير مجموعة الأشخاص الذين يمكن أن يعيثوا فسادا". وأضاف أنه دون حواجز الحماية المناسبة، قد يكون هناك خطر كبير بحدوث "هجوم بيولوجي واسع النطاق".
ورغم مقاومة الصناعة، فمن الصعب الهروب من الاستنتاج بأن المبدأ الاحترازي يجب أن ينطبق الآن على نماذج الذكاء الاصطناعي للتنبؤات المستقبلية، نظرا لعدم إمكانية معرفة قدراتها والسرعة التي يجري تطويرها بها. هذه هي وجهة نظر يوشوا بنجيو، وهو باحث رائد في مجال الذكاء الاصطناعي وحائز جائزة تورينج لعلوم الكمبيوتر، وسيحضر مؤتمر بلتشلي بارك.
يقترح بينجيو أنه يمكن تنظيم نماذج الذكاء الاصطناعي للتنبؤات المستقبلية بالطريقة نفسها التي تتحكم بها إدارة الغذاء والدواء الأمريكية في إطلاق الأدوية لوقف بيع العلاجات غير المرغوب فيها. وقد يؤدي ذلك إلى إبطاء وتيرة الابتكار ويكلف شركات التكنولوجيا مزيدا من الأموال، لكن كما يقول في مقابلة مع سلسلة البودكاست تيك تونك التي ستبثها "فاينانشيال تايمز": "هذا هو ثمن السلامة ولا ينبغي أن نتردد في القيام بذلك".
ومن الجدير بالثناء أن الحكومة البريطانية بدأت نقاشا عالميا حول سلامة الذكاء الاصطناعي، وتعمل بنفسها على بناء قدرات الدولة الخبيرة للتعامل مع نماذج التنبؤات المستقبلية. لكن مؤتمر بلتشلي بارك لن يعني كثيرا ما لم يؤد إلى عمل منسق وهادف. وفي عالم مشتت بسبب كثير من المخاطر، سيتطلب الأمر سياسيا، لا تكنولوجيا، بعقل تورينج لفك الشفرة.