البيع في أسواق السندات .. من يشعر بالألم؟

البيع في أسواق السندات .. من يشعر بالألم؟

أدت عملية بيع في أسواق السندات العالمية إلى دفع تكاليف الاقتراض إلى أعلى مستوياتها في عقد أو أكثر.
وهذا يعني خسائر فادحة محتملة للبنوك، وشركات التأمين، وصناديق المعاشات التقاعدية ومديري الأصول التي تمتلك تريليونات الدولارات من الديون السيادية والمؤسسية بعد تراكمها في الأعوام الأخيرة.
ويخشى صناع السياسات والمستثمرون أن تؤدي الجولة الأخيرة من التحركات الحادة إلى إلحاق أضرار جسيمة بمختلف أجزاء النظام المالي.
قال سلمان أحمد، الرئيس العالمي لقسم الاقتصاد الكلي في شركة فيديليتي إنترناشونال: "نشاهد هذا بحرص شديد لنرى ما إذا كان هناك شيء ما سيتعطل".

البنوك الأمريكية

الخسائر على الورق في الجزء الأكثر إبهاما من محافظ سندات البنوك الأمريكية تقترب الآن من 400 مليار دولار - وهو أعلى مستوى على الإطلاق، و10 في المائة فوق الذروة في بداية العام والتي تسببت في انهيار بنك وادي السيليكون - وفقا لماثيو أندرسون، محلل في شركة تريب لبيانات السندات.
لن تضطر معظم البنوك، خاصة البنوك الكبرى، إلى البيع وبالتالي لن تحقق تلك الخسائر أبدا.
لكن انهيار بنك وادي السيليكون الأمريكي متوسط الحجم في مارس أعاد تركيز أذهان الجهات التنظيمية والمستثمرين على المخاطر الكامنة في محافظ السندات المصرفية.
بعد تلقي سيل من الودائع من صناديق رأس المال المغامر، عزز بنك وادي السيليكون الاستثمار في محفظة بقيمة 120 مليار دولار من الأوراق المالية ذات التصنيف العالي المدعومة من الحكومة. لكن عندما ارتفعت أسعار الفائدة بشكل حاد العام الماضي، انخفضت قيمة المحفظة بمقدار 15 مليار دولار، وهو ما يعادل تقريبا إجمالي رأس مال البنك، ما جعله عرضة لموجة من العملاء الذين يسحبون ودائعهم.
وفي الوقت نفسه، توجد أسعار الفائدة المرتفعة مزيدا من الحوافز للمودعين لنقل أموالهم، ما يجبر البنوك على رفع نسبة الفائدة على الودائع للاحتفاظ بالحسابات - وهو ما يضر بالأرباح في النهاية.
انخفضت أسهم ويسترن ألاينس بانكورب، وهو بنك إقليمي مقره فينيكس ويقدم خدماته مثل بنك وادي السيليكون السابق للشركات الناشئة التي تواجه تحديات نقدية، انخفضت 20 في المائة منذ أن بدأت عوائد السندات في الارتفاع مجددا في أواخر أغسطس.
ومن بين البنوك الكبرى، كان بنك أوف أمريكا الأسوأ أداء. حيث وصلت أسهم بنك أوف أمريكا - الذي تكبد في نهاية الربع الثاني نحو 110 مليارات دولار من الخسائر غير المحققة، وهو أكبر مبلغ من أي بنك في الولايات المتحدة - إلى أدنى مستوى لها منذ 52 أسبوعا الأربعاء عند أقل من 26 دولارا بقليل.
بشكل عام، انخفضت أسهم أكبر البنوك الأمريكية، وفقا لقياس مؤشر بنك كيه بي دبليو ناسداك، بنسبة 8.5 في المائة في المتوسط الشهر الماضي، ما أدى إلى محو عشرات المليارات من الدولارات من محافظ المستثمرين.

البنوك الأوروبية

لو تحققت الخسائر على الورق في محافظ السندات، فإنها كانت ستتسبب في انخفاض بمقدار 200 نقطة أساس لنسب الأسهم العادية من المستوى الأول - وهو مقياس للقوة المالية - لأكبر المقرضين الأمريكيين في نهاية يونيو، وفقا لستيوارت جراهام، رئيس قسم البنوك في شركة أوتونوموس ريسيرش.
وعلى سبيل المقارنة، فقد انخفض التأثير بالنسبة إلى المقرضين الأوروبيين من 100 إلى 80 نقطة أساس في النصف الأول من هذا العام، ويرجع ذلك جزئيا إلى قيام البنوك بتخفيض محافظ سنداتها. لكن جراهام قال إنه يتوقع أن يكون التأثير أكبر عندما تعلن البنوك عن أرقامها للربع الثالث.
وردا على انهيار بنك وادي السيليكون، أجرى البنك المركزي الأوروبي تحقيقا على مستوى الصناعة في تعرض بنوك منطقة اليورو لأسعار الفائدة الآخذة بالارتفاع سريعا في محاولة لفهم كيف يمكن أن تنتشر المخاطر إلى قطاعات أخرى.
أظهرت النتائج، التي نشرت في يوليو، أن البنوك الـ104 التي يشرف عليها البنك المركزي الأوروبي قد تكبدت خسائر مجمعة صافية غير محققة بقيمة 73 مليار يورو في محافظ سنداتها في فبراير. وأظهر التحليل أن تلك الخسائر ستزيد بمقدار 155 مليار يورو إضافية في سيناريو أسوأ الحالات في اختبارات التحمل المصرفية التي تجريها الجهة التنظيمية.
وقال البنك المركزي الأوروبي: "ينبغي أن ننظر إلى هذا بوصفه نتيجة افتراضية غير محتملة، حيث إن محافظ البنوك ذات التكاليف المطفأة مصممة بحيث يتم الاحتفاظ بها حتى تاريخ الاستحقاق... والبنوك تلجأ عادة إلى معاملات إعادة الشراء وغيرها من الإجراءات التخفيفية قبل تصفية مراكزها في السندات".

التأمين

شركات التأمين على الحياة هي من كبار حاملي السندات، التي تستخدمها لدعم المطلوبات مثل التزامات التقاعد. وقد تضررت أسعار أسهمها بشدة بعد انهيار بنك وادي السيليكون.
يمكن لشركات التأمين في كثير من الأحيان الاحتفاظ بالسندات حتى تاريخ الاستحقاق، والتخلص من انخفاضات السوق، بينما أسعار الفائدة المرتفعة عموما ترفع مستويات سيولتها. لكن مصدر القلق هو أن الارتفاع السريع في أسعار الفائدة يشجع العملاء على تسييل المنتجات طويلة الأجل، ما يجبر شركات التأمين على بيع السندات وغيرها من استراتيجيات مطابقة أصول بالتدفقات النقدية بخسارة.
قال دوجلاس بيكر، المدير في وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، إن سيناريو أسوأ الحالات هو أن "يتغير سلوك حاملي بوليصات التأمين بحيث تصبح شركات التأمين باعة مجبرين".
أبلغت شركات التأمين الأوروبية ومن ضمنها شركة جنرالي عن ارتفاعات فيما يسمى بالفشل المؤقت في بداية العام في دول مثل إيطاليا وفرنسا، خاصة في وثائق التأمين المبيعة عبر البنوك، حيث من المرجح أن يتحول العملاء. وقالت شركة جنرالي إن الصورة تحسنت في الربع الثاني.
كان فشل يوروفيتا، شركة إيطالية صغيرة للتأمين على الحياة المدعومة من شركة الأسهم الخاصة البريطانية سينفين، علامة أخرى على وجود مشكلة. تم وضعها تحت الحراسة القضائية الخاصة من قبل الجهة التنظيمية هذا العام بعد أن تركها تراكم الخسائر غير المحققة بسبب الارتفاع السريع في أسعار الفائدة، إلى جانب ما وصفه البنك المركزي الإيطالي بأنه "إدارة رديئة للمخاطر"، تركها تعاني فجوة في رأس المال.

المعاشات التقاعدية

بشكل عام، تعد العوائد المرتفعة على السندات الحكومية أخبارا جيدة لصناديق المعاشات التقاعدية في المملكة المتحدة لأنها تعمل على تحسين مركزها التمويلي. لكن قبل عام، أدت عملية البيع المفاجئة للسندات الحكومية في أعقاب الميزانية "المصغرة" التي اقترحتها رئيسة الوزراء آنذاك ليز تروس، إلى إثارة أزمة في صناعة المعاشات التقاعدية.
تستخدم كثير من برامج التقاعد في المملكة المتحدة استراتيجية تعرف باسم "الاستثمار المدفوع بالالزامات" الذي يهدف إلى التحوط ضد التحركات في عوائد السندات الحكومية وضمان بقاء الالتزامات طويلة الأجل تجاه المتقاعدين متوافقة مع الأصول طويلة الأجل.
مع قلق المستثمرين بشأن حجم الاقتراض الحكومي المقترح والسندات الحكومية المبيعة بكميات كبيرة، ارتفعت العوائد على ديون الحكومة البريطانية.
وكان هذا يعني أن استراتيجيات التحوط التي تتبناها خطط التقاعد لا بد من دعمها بمزيد من الضمانات.
ولتلبية مطالبات الضمانات هذه، قامت صناديق المعاشات التقاعدية بتسييل أصولها الأكثر سيولة: السندات الحكومية. أدى ذلك إلى إيجاد دوامة حيث أدت المبيعات الاضطرارية للسندات الحكومية إلى انخفاض أسعارها بشكل أكبر وارتفاع العوائد - ومن ثم تطلب الأمر من صناديق المعاشات التقاعدية تقديم مزيد من الضمانات.
وقد دلت سرعة وحجم التحرك في عوائد السندات البريطانية أن كثيرا من المخططات لم تتمكن من العثور على ما يكفي من النقد الجاهز، واضطرت إلى بيع أصول أقل سيولة، عادة بخسارة.
وقد أدى الارتفاع الأخير في عوائد السندات مرة أخرى إلى مواجهة صناديق المعاشات التقاعدية مطالبات بالضمانات. هذه المرة، يقول المستشارون إن النظام يتأقلم مع الوضع الحالي بفضل الضوابط الأفضل على المديونية والسيولة.
لكنهم حذروا من أنه إذا استمرت عوائد السندات في الارتفاع فقد يجبر ذلك بعض خطط المعاشات التقاعدية على التخلص من الأصول التي يتم تداولها بسهولة أقل.
وقال سيميون ويليس، كبير مسؤولي الاستثمار في إكس بي إس، شركة استشارية في استثمار المعاشات التقاعدية: "قد تؤدي زيادة العوائد الإضافية إلى اختبار بعض الصناديق التي تفرض عليها متطلبات أكثر تشددا للاحتفاظ بالسيولة".
"رغم أنه ليست هناك إمكانية وشيكة بأن تواجه خطط المعاشات التقاعدية ما واجهته قبل عام من الارتفاع السريع في عوائد السندات الحكومية، إلا أن ما لا يزالون معرضين له هو الارتفاع المستمر على المدى الطويل في العوائد ما يؤدي إلى تقليص قاعدة أصولها ويقودهم إلى النقطة التي يحتاجون فيها إلى بيع مزيد من الأصول غير السائلة، بخسارة".

أسواق الدين

تعرضت أسواق ديون الشركات أيضا لضغوط متزايدة بسبب الارتفاع الحاد في عوائد السندات الحكومية، الأمر الذي يزيد تكاليف اقتراض الشركات.
وارتفع متوسط العائد على السندات الأمريكية غير المرغوب فيها إلى ما يزيد على 9.3 في المائة هذا الأسبوع، مقارنة بأقل من 9 في المائة في نهاية سبتمبر و8.5 في المائة في الشهر السابق.
بدورها، ارتفعت أيضا العلاوة التي يدفعها المقترضون ذوو التصنيف المنخفض عن الحكومة الأمريكية لإصدار السندات - وهو مقياس لمخاطر التخلف عن السداد.
كانت التحركات أكثر وضوحا في الطرف الأكثر خطورة من الطيف الائتماني، مع توسع متوسط الفارق على السندات "من درجة سي الثلاثية والسندات من الدرجة الأقل" الثلاثاء بأكبر قدر له في يوم واحد منذ مارس - عندما أثارت الاضطرابات في القطاع المصرفي المخاوف بشأن معايير الإقراض الأكثر صرامة.
كما تمكنت كثير من الشركات من تأجيل إعادة تمويل الديون، بعد الاستفادة من أسعار الفائدة المنخفضة للغاية في بداية جائحة فيروس كورونا للاقتراض بسعر رخيص وتأجيل مواعيد الاستحقاق.
مع ذلك، سيحين موعد استحقاق سيل من الديون في الفترة من 2025 إلى 2026 - ويشعر مصدرو القروض غير المرغوب فيها، التي لها أسعار فائدة معومة، بالفعل بآثار تشديد الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
قال جريج بيترز، الرئيس المشارك لقسم الاستثمار في محفظة بي جي أي إم فيكسد إنكوم، إن ارتفاع العوائد "يضع مزيدا من الضغط على الشركات ذات المديونية الأعلى أو العقارات ذات المديونية الأكبر".
"إنك ستواجه... بيئة من التخلف عن السداد وأسعار الفائدة الأعلى من المعتاد عندما تبدأ هذه الشركات التي نجت بالفعل إلى حد كبير جزئيا بسبب التمويل الرخيص المتراجع".

الأسهم الخاصة

إن احتمال بقاء أسعار الفائدة مرتفعة لفترة طويلة يعد خبرا سيئا بالنسبة إلى الأسهم الخاصة على جبهات متعددة. لقد انخفض عقد الصفقات بالفعل على مدى الأشهر الـ12 الماضية، حيث عانت شركات الاستحواذ تأثير ارتفاع تكاليف الاقتراض.
وقال هاكون بلاكستاد، كبير المسؤولين التجاريين في شركة فاليدوس ريسك منجمنت: "كانت الأسهم الخاصة لفترة طويلة مرادفة "للاستحواذ بالمديونية"، لذا فمن البديهي أن يصبح الجزء الخاص "بالمديونية" أكثر تكلفة بالنسبة إلى شركات المحافظ الحالية أو المحتملة".
وقد أدى التباطؤ في دورة الصفقات إلى زيادة صعوبة قيام الشركات ببيع أصولها وإعادة الأموال إلى مستثمريها. كما بدأت قدرة الشركات على خدمة ديونها تبدو أكثر توترا.
وحذر الباحثون في مجموعة كارلايل من أن ارتفاع تكلفة الديون أدى إلى انخفاض كبير في نسب تغطية الفائدة عبر عالم الأسهم الخاصة، وهو معيار يستخدمه كثير من المقرضين ووكالات التصنيف كمقياس لمدى قدرة الشركات على خدمة ديونها عبر الأرباح التشغيلية.
وإلى جانب التضخم وتباطؤ الاقتصاد، قد يؤدي ذلك إلى وقوع مزيد من الشركات المدعومة بالاستحواذ في مشكلات.
كما أن ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل سيضغط على تقييمات العقارات الخاصة، حيث أصبحت شركات مثل بلاكستون وبروكفيلد من أكبر مالكي العقارات على مستوى العالم.
جرت العادة أن يتم إجراء تقييمات العقارات الخاصة باستخدام أسعار الفائدة القياسية لمدة عشرة أعوام أو أكثر، التي حتى الأشهر الأخيرة ارتفعت أقل بكثير من الأسعار قصيرة الأجل. وإذا ظلت أسعار الفائدة طويلة الأجل مرتفعة لفترة طويلة، فقد يجبر ذلك أصحاب العقارات على خفض التقييمات من جديد، في الوقت الذي يحين فيه استحقاق تريليونات الدولارات من القروض في الأعوام المقبلة.

الأكثر قراءة