رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


حوكمة ديون إفريقيا .. إلى متى؟

عندما يبدأ أي مهتم بالقراءة والنقاش في أزمة الديون الخاصة في الدول الإفريقية، فإنه سيعود إلى عقود من المقالات والمؤلفات والبحوث التخصصية، فهذه القارة منذ إعلان استقلال دولها وهي تعيش في عديد من المشكلات والتحديات الاقتصادية، ويعيش السواد الأعظم من أبنائها في براثن الفقر، وهذه النتيجة لا تختلف سواء مرت الدول الإفريقية والعالم معها بفترات ازدهار أو ركود أو حتى أزمات مثل أزمة كورونا الصحية. وهناك مقالات ودراسات تتبعت أزمة الدين الإفريقية منذ 1974، وخطابات رؤساء الدول الإفريقية في مقر الأمم المتحدة لا تخلو من الحديث عن الزيادة الضخمة في حجم ديون القارة السمراء، وعبء خدمة الديون الثقيلة، وأنه الذي يستنزف موارد النقد الأجنبي، وجميع تلك الخطابات والمقالات والأبحاث والأعوام تؤكد نتيجة واحدة هي أن الدين الخارجي هو حجر الرحى في الاقتصاد الإفريقي وهو العقبة في الوقت نفسه.
وفقا لتقرير نشرته "الاقتصادية" أخيرا تجمع الأغلبية العظمى من الخبراء على أن عاصفة سداد الديون الإفريقية قادمة لا محالة، محذرين من أن العاصفة قد تقتلع في طريقها كثيرا من الإنجازات التي حققتها وربما تعيد بعض دولها إلى نقطة الصفر من جديد. ليس من باب المصادفة إذ إنه تم في باريس في يونيو الماضي عقد قمة ميثاق التمويل العالمي الجديد تحت عنوان "إعادة التفكير في الهيكل المالي العالمي" لمعالجة التحديات التي تفرضها الديون المفرطة، وتغير المناخ والفقر على الدول النامية ومنخفضة الدخل، وقدرت فجوة التنمية المستدامة في تلك الدول بنحو 2.5 تريليون دولار سنويا. لقد جمعت قمة باريس ممثلين من نحو 32 دولة، ومنظمات دولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنظمات المجتمع المدني التي تدعو إلى تخفيف عبء الديون وتمويل المناخ للدول ذات الدخل المنخفض، إضافة إلى القطاع الخاص، وعلى الرغم من بعض التفاؤل الذي جاء عقب قمة ميثاق التمويل العالمي فإن المشكلات الرئيسة لم تزل قابعة في قلب اقتصاد الدول الإفريقية، وفي الوقت الحاضر هناك 22 بلدا إفريقيا منخفض الدخل، إما يعاني فعليا ضائقة الديون وإما معرض بشدة لخطر الإصابة بضائقة الديون. وتشير البيانات الدولية إلى أنه في هذا العام ستبلغ القيمة الإجمالية لاستحقاقات مدفوعات الديون الإفريقية 69 مليار دولار أي أكثر من كل المساعدات التي تلقتها القارة في 2021، وستنفق الحكومات الإفريقية 10 في المائة من إيراداتها لخدمة القروض، وقدر ذلك بثلاثة أضعاف المدفوع قبل عقد من الزمن. ولفهم خطورة الوضع فإن 17 مليون شخص سيلتحقون بفئة الفقر المدقع إذا عجزت الـ14 دولة الأكثر عرضة لخطر ضائقة الديون عن سداد خدمة الدين هذا العام.
مشكلة الدين الحكومي أنه يمثل رهنا لجزء من الناتج المحلي في المستقبل، فخدمة الدين في قارة مثل إفريقيا، وصل الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي إلى 56 في المائة، وهو أعلى مستوى منذ أوائل العقد الأول من القرن الـ21، ومن الصعب على إفريقيا أن تتحمله، كما يؤكد الخبراء، عندما يتم رهن هذا القدر الكبير من الناتج المحلي لسداد الدين وخدمته فإن هناك شكا جوهريا له ما يبرره في قدرة الحكومات الإفريقية على جمع التمويل اللازم لتحقيق تحسينات اجتماعية أوسع لسكانها، أو المضي قدما في خططها الاقتصادية لتحسين وتطوير البنية التحتية. فمواجهة أزمة الديون تؤدي إلى تفاقمها على الأمد الطويل، لأنها تتطلب تخفيضات جذرية في الميزانية المحلية من خلال خفض الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم وغير ذلك من الإنفاق الاجتماعي، تلك التخفيضات توفر راحة مؤقتة لكنها تأتي على حساب الصحة الاقتصادية ورأس المال البشري على المدى الطويل، ما يهدد بانهيار عقود من التقدم الاقتصادي، إذن هناك مشكلة أصيلة وهي القدرة على إدارة الدين بشكل يسمح باستخدامه بشكل يسهم في تحقيق أهدافه من جانب ويسهم في سداد خدمة الديون عندما يحل موعد السداد، هذه مشكلة إدارية لم تحل، ولهذا فإن مقارنة نسبة الدين إلى الناتج المحلي في إفريقيا بدول أوروبية مثلا كاليونان تؤكد أنه لا توجد مشكلة في معالجة الأزمة إذا كانت هناك إدارة ذات حصافة تعمل على تعظيم الاستفادة من النقد الأجنبي المتاح، لكن هذا يتطلب حوكمة اقتصادية متكاملة، وهذا ما لم تنجح فيه معظم الدول الإفريقية التي تواجه تقلبات سياسية وانقلابات تحد من قدرتها على التفرغ لمثل هذ المشكلات.
يرى بعض الخبراء الذين استطلعت "الاقتصادية" رأيهم، أن المقارنة بالدول الأوروبية مثل اليونان وإيطاليا وإلقاء مسؤولية الإخفاق في إدارة أزمة الديون على عاتق الحكومات الإفريقية وحدها تحمل في طياتها كثيرا من الغبن، فعند اقتراض بلد إفريقي يتم فرض قسط إضافي تلقائيا عليه بنسبة 2.9 في المائة لمجرد أنه موجود في إفريقيا، وقبل عامين أنفقت الأسواق الناشئة ما يقرب من 8 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي لخدمة الدين، وفي الاقتصادات المتقدمة بالكاد وصل هذا المعدل إلى 1 في المائة، وخلال جائحة كورونا تم خفض التصنيف الائتماني لنحو 41 في المائة من الدول الإفريقية، ما رفع معدل الفائدة واجبة السداد على ما تتلقاه من قروض، ومع ذلك فإن هذا الانتقاد يعود بالمشكلة إلى أصلها، فالتصنيف الدولي لا يعتمد على حجم القروض بل أيضا على المخاطر المرتبطة بالسداد، وفي دول مهددة بالتقلبات السياسية في أي وقت فإن المخاطر تتزايد أيضا وهذا يؤثر في التصنيف والفائدة بعد ذلك.
وبالعودة إلى قمة باريس حيث يرى كثير أن المشكلة القائمة تتعلق أيضا بشكل النظام المالي العالمي الذي يحتاج إلى إصلاح سريع، كما يرى مستشارو صندوق النقد الدولي، فالمخاطر يجب أن يتقاسمها الجميع لا أن تتحملها الدول الإفريقية وحدها، لذلك فإن حل أزمة الديون الإفريقية يتطلب إشراك كل اللاعبين، فمثلا كان الاقتراض من الصين يصب في مصلحة القارة وشعوبها، ففي 2021 فرض المقرضون من القطاع الخاص أسعار فائدة بنسبة 5 في المائة بينما فرض المقرضون الصينيون والمقرضون متعددو الأطراف أسعار فائدة بنسبة 2.7 و1.3 في المائة على التوالي، لكن إصلاحات مثل هذه تتطلب تعاون الولايات المتحدة والصين ونادي باريس وهذا يضع مشكلة الدين الإفريقية أمام أصعب قضاياها وهي طبيعة الصراع الدولي مع تنامي التوترات بين الولايات المتحدة ومجموعة السبع من جانب والصين من جانب آخر، فأي معالجة أو جدولة أو حقبة جديدة لمعالجة التمويل الدولي كما ينادي بها الرئيس الفرنسي كلها تتطلب توافقا مع الصين، وهذا يبدو غير متاح حاليا.
خلاصة القول، إن أزمة الدين الإفريقية هي جزء لا يتجزأ من مشهد الاقتصاد العالمي منذ السبعينيات في القرن الماضي، وحلها يتطلب تغيرات جوهرية في بنية الاقتصاد العالمي وآليات تقاسم المخاطر والتصنيفات الدولية والصراع الدولي حول إفريقيا، وفوق هذا كله إرادة سياسية في الدول الإفريقية لبناء حوكمة اقتصادية موحدة ملزمة لجميع الأطراف السياسية، بغض النظر عمن يحكم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي