فن المبالغة وإيصال المعنى
قد يصنع الشخص هالة من المثالية، يضعها حول نفسه تحفيزا لها، ليتحول مسخا غير واقعي في عيون الآخرين. ويمتدح آخر موظفا لديه، بثا للإيجابية، فيتهم بالمحاباة أو المجاملة التي تتجاوز الحدود. هناك بالطبع حالات كثيرة أخرى، لمبالغة تحدث أثناء النقاش لتوضيح فكرة ما، أو في سياق معين لتقريب معنى محدد من تصوراتنا المتباينة، استعارة الصور والمعاني واستخدام الأمثلة، كلها من سمات التواصل التي تضع المتحدث في طرف بعيد بعض الشيء عن الطرف الذي يقوم على الحقائق والمعلومات. لهذا، تعد المبالغة والأساليب القريبة منها تطرفا في التواصل، وهو ليس بالضرورة تطرفا مذموما. لكن هذا يثير بعضا، ويجعلهم يستغربون ويستنكرون، ويطالبون بالواقعية والإنصاف - حسب وصفهم - ويستغربون التجسيد الواضح جدا للمعنى، ويرونه مبالغة مستحيلة في الدقة، أو تعبيرا زائدا وغير ضروري للتعاطف، أو تقعرا في كلام أو إسقاطا يحتمل كثيرا من المعاني الأخرى. لكن هؤلاء لا يقدمون حلولا بديلة للمعنى الذي يصعب طرحه دون تفخيم وتعظيم وتمثيل ومبالغة.
يعود أصل كلمة كاريكاتير إلى مفردة إيطالية "كاركير" معناها "يبالغ"، لذا يسمى فن الكاريكاتير أحيانا فن المبالغة، وهذا بكل بساطة لأن المعنى المرسوم يستخدم المبالغة لإيصال التأثير المطلوب في قالب ساخر يبالغ بتحريف وتعديل الواقع. مقارنة ما ينقله الكاريكاتير لصورة وجه شخصية سياسية في موقف لئيم أو شرير، مع رسم بورتريه واقعي للشخص نفسه سيوضح المبالغة ويثير المتلقي وينقل المعنى المراد إيصاله بوضوح.
ومن قبل الكاريكاتير أجاد العرب وسبقوا غيرهم في فنون البديع، ومن فنون البديع المبالغة، وقد فصلوا فيها وبينوا كيف تحدث المبالغة في الشعر والنثر وما يفوقها وما ينقص عنها من تبليغ وإغراق وغلو أو إيهام. الهدف في النهاية هو إثارة المتلقي وفتح بوابات عقله ومشاعره ليستقبل المعنى ويصله وهو أقرب إلى ما يريد صاحب المعنى.
المبالغة كأداة لإيصال المعنى لا تعني بالضرورة معاكسة الحقائق، إنما استخدام حقائق أخرى أو الاستناد إلى تصورات معلومة للاستدلال على المعنى المنشود. صنف المفسرون واللغويون في إعجاز القرآن اللغوي كثيرا من أوجه المبالغة وما يقترب منها من أدوات البلاغة والبديع. والقرآن دون أدنى شك يعد مرجعا زاخرا بكثير من الصور والمحسنات البديعية التي تفوق غيرها بكثير. يقول الله تعالى: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون". وقد تعددت الصور والمبالغات وهناك كثير مما يمكن تعلمه من أسلوب القرآن في إيصال المعنى. يقول الله تعالى: "ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا" ويقول "ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط" وهكذا، بعضها مبالغات مستحيلة وتمثيل كامن وغير ذلك، صور القرآن وبلاغته بحر مليء بهذه الدرر والأساليب المتنوعة.
يقال إن المبالغة لا تحدث فقط بإدخال الزخم في المعنى أو تضخيمه وتفخيمه، إنما تكون في تبسيطه، إذ إن تبسيطه في بعض الأحيان هو المدخل الأفضل لإيصاله. وهكذا تأخذ المبالغة بمعناها الواسع أشكالا مختلفة، وقد تصبح مظلة الأدوات التواصلية التي توصل المعنى وقد تصبح في نظر البعض إحدى هذه الأدوات.
المهم هنا هو أن تحدياتنا مع استخدام المبالغة الهادفة تنحصر في جانبين، الأول، استخدامها بشكل غير جيد، وهذا يحدث بالمبالغة في استخدام المبالغة، أو بعدم استخدامها، ما يصنع جفافا ورتابة وقصورا في إيصال المعنى، أو بعدم السيطرة على المعنى قبل محاولة إيصاله، ومن ذلك أيضا قدرتنا على مواءمة المبالغة مع الطرف المتلقي لها، فهو عنصر أساسي في عملية اختيار الأداة والأسلوب. التحدي الآخر في استخدام المبالغة يقع بسبب أن بعضا خصوصا المؤثرين في سياقهم ـ كالمدير في العمل، أو المؤثر اجتماعيا ـ يرون أن المبالغة فن من الفنون الأدبية لا تصلح إلا في الشعر والنثر، لذا يبحثون عن الموضوعية والمادية البحتة في كل معنى يحاولون نقله، ولا يقبلون غير ذلك من أساليب. القرآن يثبت لنا أنها أسلوب شرح وتأثير وتفاوض وقابلة للاستخدام في أحلك وأهم المواقف. المبالغة فن دون أدنى شك، لكنه فن حياتي تواصلي قابل للاستخدام في كل سياق متى ما أجدنا المهارة، وحزنا الأدوات المناسبة لذلك.