كيف قلصت الميزانيات وكوفيد والذكاء الاصطناعي مجال الاستشارات؟

كيف قلصت الميزانيات وكوفيد والذكاء الاصطناعي مجال الاستشارات؟

أندرو شريك في شركة استشارية صغيرة في إنجلترا عمره 63 عاما، يجد نفسه مع كثير من وقت الفراغ وقليل من المال. لدى "شامبو"، مستشار إداري مساعد يبلغ من العمر 32 عاما في الهند، شكوى معاكسة: لقد زادت ساعات عمله بشكل كبير، مع طلب العملاء منه مزيدا من العمل مقابل الرسوم نفسها.
وتشعر سييرا، مساعدة تبلغ من العمر 23 عاما في نيويورك، بضغط فظيع لأداء عملها حتى لا يتم تسريحها.
توضح تجارب هؤلاء العمال مجموعة فريدة من التحديات التي تواجه صناعة الاستشارات العالمية، التي تدر إيرادات سنوية تبلغ نحو 860 مليار دولار، وفقا لمجموعة الأبحاث الأمريكية إيبيس وورلد.
استفادت المهنة التي بنيت لمساعدة الآخرين على مواجهة الاضطرابات من اندفاع الطلب خلال جائحة كوفيد - 19 وتوسعت وفقا لذلك، لكن هذا وصل إلى نهاية مفاجئة، حيث قام العملاء، من البنوك إلى شركات التكنولوجيا، بخفض الإنفاق على المستشارين في ظل اقتصاد يتسم بعدم اليقين.
حيث قال يزدي ديبو، أحد كبار شركاء العملاء في شركة كورن فيري الاستشارية "كانت لدينا أكبر سوق للاستشارات على الإطلاق. كان لديهم عمل رسمي مع عملاء، ومن المفهوم أنهم قاموا بالتعيين".
والآن تقوم الشركات من أكسنتشر إلى إي واي وماكينزي بإلغاء آلاف الوظائف. وتقييمات الشركات الاستشارية آخذة في الانخفاض -وهو أحد الأسباب التي دفعت شركة إي واي إلى سحب خطتها إيفرست بروجكت لفصل ذراعيها المحاسبية والاستشارية- بينما تتعرض سمعة الصناعة للهجوم في أعقاب فضائح مثل سوء سلوك الشركات في جنوب إفريقيا.
أظهر الاستطلاع الأخير الذي أجرته شركة كورن فيري لشركاء الاستشارات في أمريكا الشمالية مدى القلق بين الموظفين، حيث توقع نحو 60 في المائة انخفاض الطلب وزيادة الضغط على الرسوم في العام المقبل. وأعرب أكثر من 80 في المائة عن قلقهم بشأن الحصول على ما يكفي من العمل، وتوقع نصفهم تقريبا مزيدا من عمليات التسريح.
ورغم التفاؤل المستمر بشأن مستقبل الصناعة على المدى الطويل، "لقد كانت ضربة إلى حد ما" بعد أعوام الازدهار، على حد قول ديبو. يشعر كثير من الأعضاء الأفراد العاملين في هذه الصناعة بالإرهاق.
للحصول على رؤية أوسع حول كيفية تغيير الاضطرابات للمهنة التي توظف ملايين الأشخاص وتؤثر في الشركات متعددة الجنسيات والحكومات، سألت صحيفة "فاينانشيال تايمز" القراء العاملين في الصناعة عن تجاربهم.
توفر الردود التي يزيد عددها على 320، من مستشارين من السويد إلى سنغافورة ومن تكساس إلى كازاخستان، لمحة سريعة عن شواغل الصناعة، وتبرز خمسة مواضيع واضحة.

عبء العمل

تحدث ما يقل قليلا عن ثلث المستشارين الذين استجابوا للاستبيان بأن لديهم عملا أقل الآن مقارنة بالعام الماضي. هذه ليست صورة لصناعة في حالة سقوط حر، لكنها تساعد على تفسير المزاج القلق. ويعزو كثير من المستشارين الذين قالوا "إنهم يعملون لساعات أطول" هذا التغيير إلى تخفيض عدد الموظفين في شركاتهم.
لم تكن التحولات في عبء العمل موزعة بالتساوي: فالاستشاريون في أمريكا الشمالية وأولئك الذين يعملون في أكبر الشركات كانوا الأكثر عرضة لقول "إن لديهم مزيدا من العمل".
وقال بعض المستشارين "إنهم يعملون من 60 إلى 70 ساعة أسبوعيا لإثبات جدارتهم". قال أحد الشركاء الإداريين "أعمل بجد أكبر لجذب العملاء، لأن العمل أصبح أقل من ذي قبل".
وتحدث الذين يعملون بشكل أقل عن تأخير المشاريع أو التخفيضات في مجالات مثل عمليات الاستحواذ واستثمارات الأسهم الخاصة. وقال ماثيو، مستشار تجربة المستخدم من لندن "أقوم بهذا العمل منذ 25 عاما، وهذا أحد أسوأ الأوقات التي رأيتها".
وقد أكد ذلك النتائج التي توصلت إليها شركة كورن فيري. فقد قالت إنه قبل ستة أشهر، كان القلق الأكبر لدى المستشارين الأمريكيين هو كيفية مواكبة الطلب. "أما الآن، فيبدو أن العبارة المتكررة هي: كيف أبقي جميع فرقي مشغولة؟".
ووجد المحللون في شركة ويليام بلير أن إعلانات الوظائف الاستشارية انخفضت بنسبة 63 في المائة على أساس سنوي في سبتمبر إلى أدنى مستوى سجلته. ووجدت شركة سورس جلوبال ريسيرش أن المجالات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي لا تزال تنمو، لكن أكثر من ثلاثة أرباع العملاء الأمريكيين ألغوا بعض المشاريع على الأقل.
بشكل عام، قال أكثر من 40 في المائة من المشاركين في الاستبيان إن التوازن بين عملهم وحياتهم الخاصة قد تدهور. ورغم كل التركيز على مخاوف عبء العمل لدى "جيل زد"، لم يكن جيل طفرة المواليد أقل قلقا بشأن التوازن بين العمل والحياة.
وتباينت أسباب القلق، إذ اشتكى نحو ثلاثة أرباع هذه المجموعة من أن لديهم كثيرا للقيام به، لكن نحو واحد من كل عشرة قال إن لديه قليلا جدا للقيام به. واشتكى أحد المتخصصين في التغليف من جلاسكو قائلا "الآن لا يوجد عمل لتحقيق التوازن فيه".

الرغبة في الاستقالة

ربما كان الرد الأكثر إثارة للقلق على الاستطلاع بالنسبة إلى أي شخص يدير شركة استشارية هو أن واحدا من كل ثلاثة مستشارين قال إنه يأمل القيام بعمل آخر في غضون خمسة أعوام. وفي بعض الحالات، كان ذلك بسبب اقترابهم من التقاعد، لكن الرسالة الأكثر شيوعا كانت من المهنيين الأصغر سنا.
عد كثير منهم مجال الاستشارة بمنزلة منطلق إلى وظيفة في الصناعات التي قدموا المشورة إليها. لكن نائب رئيس بالغا من العمر 25 عاما قال "إنها ليست مهنة مجزية على المدى الطويل". وكان مدير ارتباط بالغ من العمر 34 عاما أكثر صراحة "هذه وظيفة للشركاء ومجموعة من المبتدئين.. من غير المنطقي العمل هنا إلا إذا كنت على المسار لتصبح شريكا".
ومن بين نصف المشاركين تقريبا الذين يخططون للاستمرار في العمل في مجال الاستشارات، وصفها كثيرون بأنها وظيفة متنوعة ومجزية. يتناغم ذلك مع شيء قاله الرئيس التنفيذي لشركة بي دي أوه يو إس أيه لصحيفة "فاينانشيال تايمز" في مايو الماضي: تجد شركة المحاسبة صعوبة في توظيف الخريجين لأعمال التدقيق لأنهم "يعتقدون أن الأمر سيكون أكثر إثارة في مجال الاستشارات".
وقال ناثان أوين روزنبرج، شريك مؤسس لشركة أمريكية صغيرة، يبلغ من العمر 71 عاما "المكافأة هي الملاحظات التي نتلقاها من العملاء.. وأن يكون لنا يد في تنمية زملائنا الأصغر سنا. إنني أعمل في مجال الاستشارة منذ 38 عاما وأذهب إلى العمل بحماس كل يوم".

تهديد الذكاء الاصطناعي

هذا الصيف، طرحت شركة ماكينزي منصة توليدية للذكاء الاصطناعي تسمى "ليلي"، التي تعد بالقدرة على البحث في أعوام من كتب قواعد اللعبة، ودراسات الحالة والأبحاث لتوقع الأسئلة، واختبار الحجج والسماح لموظفيها بقضاء مزيد من الوقت مع العملاء.
اعتقد كل مستشار ممن استجابوا للاستبيان تقريبا أن بعض أعمالهم يمكن إنجازها بواسطة نماذج مثل هذه في المستقبل، لكن قليلا منهم توقع أن يتسبب الذكاء الاصطناعي في حدوث اضطرابات هائلة. توقع معظمهم بعض التغيير، لكنهم رأوه بمنزلة إضافة إلى ما يقومون به، وليس تهديدا له.
قال أحدهم "في النهاية، الاستشارة عمل يركز على الأفراد، والناس يثقون بالناس". وأشار آخر إلى أن "المستشارين يزدهرون في أوقات التغيير والغموض. وهذا بالضبط عكس نماذج الذكاء الاصطناعي، التي تعيد صياغة الحلول والمحتوى الحالي".
وقال إيليا ريبشين، وهو شريك في شركة صغيرة في نيويورك، "إن الذكاء الاصطناعي قد يأخذ بعض المهام البدائية من فريقه، لكن لا يمكنه تنفيذ توصياتهم". وأضاف "يأتي تأثير الاستشارات.. من التشمير عن السواعد وإحداث التغيير".

أنماط العمل

عندما ضرب كوفيد، كان على الشركة الاستشارية، المبنية على النصائح الشخصية والسفر المتكرر، إصلاح طريقة عملها بين عشية وضحاها. قال أحد مديري مكتب إدارة المشاريع "لقد انتقلت من العمل في موقع العمل بنسبة 100 في المائة إلى العمل عن بعد بنسبة 99 في المائة".
وحتى مع محاولة الشركات إقناع مزيد من المستشارين بالعودة إلى مكاتبهم، قال كثير منهم "إن الانخفاض الكبير في السفر أدى إلى توفير الوقت". كان بيتر، وهو شريك ضرائب في لندن، يمضي في البداية الساعات التي لم يعد يتنقل فيها في العمل، لكنه بعد ذلك "استعادها بصعوبة" من صاحب العمل للقيام بمهام أكثر متعة مثل تمشية الكلاب. وقال "لقد استمرت هذه المرونة الخالية من الذنب".
ومع ذلك، فإن التحول إلى مزيد من العمل عن بعد له جوانب سلبية باقية. وقال كثير منهم "إن إدارة أعضاء الفريق وإبقاء العملاء سعداء عن بعد كان أمرا صعبا، ما أدى إلى مزيد من علاقات المصلحة وسوء الفهم".
وقالت شريكة تبلغ من العمر 60 عاما من لوس أنجلوس "إن حرص شركتها على وجود كبار القادة في المكاتب من أجل الثقافة قد زاد من الضغوط".
وكان مصدر القلق الآخر هو "الغموض" بشأن الحدود بين العمل والمنزل، ما يجعل الناس مطلوبين للعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع ويجعلهم عبيدا لأدوات مؤتمرات الفيديو "المنهكة".
اشتكى أحد المستشارين من باريس قائلا "يميل الشركاء والعملاء إلى نسيان أنه وراء اجتماع منصة تيمز على أجهزة الحاسوب المحمول الخاصة بهم يوم الجمعة في الساعة 7 مساء، هناك أشخاص حقيقيون، لديهم أيضا عائلة وحياة شخصية".

هل الأمر كله احتيال كبير؟

ليس من المستغرب أن ترفض الأغلبية الساحقة من المستشارين الفكرة "التي تمت إشاعتها في كتاب يحمل ذلك الاسم" التي تعد الاستشارة بمنزلة "احتيال كبير". ورأى أكثر من 70 في المائة أنهم أضافوا قيمة.
وقال أحد مديري المدارس "ينبغي أن تكون الإدارة قادرة على القيام بمعظم عملنا. لكنه لا يمكنها القيام بذلك. مجتمعنا يبالغ بشكل كبير في تقدير المديرين التنفيذيين بشكل عام". وقال بعض "إنه حيث فشلت الاستشارات، كان ذلك خطأ العملاء الذين لم يستمعوا".
وقال مايكل، أحد كبار الشركاء في عملية التحول، "إن عملاء القطاع العام يفرطون في الإنفاق بشكل كبير على الاستشاريين الذين تتمثل مهارتهم الرئيسة في تقديم العروض التقديمية التي تمنح الجميع شعورا دافئا وسعيدا بأنه يتم إنجاز شيء ما، لكنهم في النهاية يرفضون الأفكار الكبيرة".
وقال كثير منهم "إنهم قدموا وجهة نظر مستقلة وحيوية". يمكن أن يكون للاستشارات فوائد مشابهة للعلاج النفسي على المدى الطويل، كما قال أحد الشركاء "تماما كما لن تستخدم شريكك أو والدتك لتكون معالجتك النفسية، فمن الضروري وجود منظور جديد وطرف ثالث".
لكن أقلية من المستشارين انتقدت الصناعة بشدة. حيث قال أحدهم "ليس لدي ثقة كبيرة بأن عملنا يحدث فرقا. فنصف الوقت يتم استدعاؤنا لتقديم وجهة نظر مستقلة حول ما تم اتخاذ قرار بشأنه بالفعل"، وأضاف آخر بصراحة أكبر "يقوم عملنا على إيجاد التبعية".

الأكثر قراءة