فن الأخطاء النافعة .. الاعتراف الخطوة الأولى

فن الأخطاء النافعة .. الاعتراف الخطوة الأولى

هل الفرق الجيدة هي التي ترتكب أخطاء أقل؟ تبدو فرضية معقولة. لكن في أوائل التسعينيات، عندما نظرت باحثة شابة إلى الأدلة الواردة من الفرق الطبية في مستشفيين في ماساتشوستس، كان للأرقام قصة مختلفة تماما: الفرق التي أظهرت أفضل عمل جماعي كانت هي التي ارتكبت أكبر قدر من الأخطاء. ما الذي كان يحدث؟
اسم الباحثة هو إيمي إدموندسون، وبعد مرور 30 عاما على هذا اللغز الأصيل، يكشف كتابها الجديد "النوع الصحيح من الخطأ" عن مستنقع من الارتباك والتناقض والحديث السعيد العفوي عن متعة الفشل. سرعان ما حلت إدموندسون اللغز. لم تكن أفضل الفرق هي ذات الأخطاء الأقل، بل هي الفرق التي اعترفت أكثر بارتكاب الأخطاء. لم تعترف الفرق العاجزة إلا بعدد قليل جدا من الأخطاء، وذلك لسبب بسيط وهو أن شخصا ما في تلك الفرق لم يشعر بالأمان في الاعتراف بالمسؤولية.
إن التعبير الملطف الذي عفا عليه الزمن للإخفاق هو "تجربة تعليمية"، لكن قصة إدموندسون تشير إلى حقيقة عامة حول هذه العبارة المبتذلة: لا يمكن للمؤسسات والأشخاص أن يتعلموا من أخطائهم إطلاقا إذا أنكروا حدوثها.
إن مثل هذا الإنكار شائع جدا خاصة على المستوى التنظيمي، ولأسباب واضحة لحفظ ماء الوجه. لكن قد يكون من السهل التغاضي عن الآثار المترتبة على ذلك.
تتذكر إدموندسون، مثلا، اجتماعا مع مديرين تنفيذيين من إحدى شركات الخدمات المالية في أبريل 2020. مع اكتظاظ المستشفيات في جميع أنحاء العالم بمرضى كوفيد الذين يعانون ضائقة تنفسية حادة، وإغلاق اقتصادات كثيرة، أخبروا إدموندسون أن موقفهم من الفشل قد تغير. وأوضحوا أنهم عادة ما يكونون متحمسين للمخاطرة المعقولة، ويشعرون أنه من المقبول الفشل إذا تعلمت من هذا الفشل، لكن ليس أثناء الجائحة. لقد قرروا أن الفشل كان "محظورا" مؤقتا.
ما هذا الهراء. إن اللحظة التي قلب فيها كوفيد العالم رأسا على عقب كانت على وجه التحديد الوقت المناسب لخوض مخاطر محسوبة والتعلم بسرعة، فضلا عن الوقت الذي أصبح فيه الفشل أمرا لا مفر منه.
إن المطالبة بالكمال في ظل هذه الخلفية يضمن البطء والإنكار.
قد يكون من الحكمة السعي نحو الكمال، كما توضح إدموندسون، لكن ليس دون إرساء أسس ليشعر الناس بالأمان عند الاعتراف بالأخطاء أو الإبلاغ عن أخطاء الآخرين. عندما أصبح بول أونيل، مثلا، رئيسا لشركة الألمنيوم الأمريكية ألكوا في 1987، حدد هدفا مستحيل التحقق وهو صفر إصابات في مكان العمل. أدى هذا الهدف إلى رفع الأداء المالي لشركة ألكوا، لأنه ساعد على ترسيخ تركيز مربح للغاية على التفاصيل والجودة. يبرز هذا المثال في كتب الأعمال. لكن من المؤكد أن الأمر كان سيأتي بنتائج عكسية لو لم يكتب أونيل رسالة إلى كل عامل، فيها رقم هاتفه الشخصي ويطلب فيها منهم الاتصال به إذا كانت هناك أي انتهاكات للسلامة.
مثال مشهور آخر هو حبل أندون من شركة تويوتا، حيث يمكن لأي عامل في خط الإنتاج أن يسحب الحبل المعلق فوق محطة العمل التي يوجد فيها إذا رأى علامات على وجود مشكلة. (خلافا للمفهوم السائد، فإن الحبل لا يوقف خط الإنتاج فورا، لكنه يؤدي إلى اجتماع عاجل لمناقشة المشكلة. ويتوقف الخط إذا لم يتم حل المشكلة في غضون دقيقة أو نحو ذلك.) حبل أندون عبارة تصوير مادي لالتزام "تويوتا" بالاستماع إلى عمال خط الإنتاج. وكأنها تقول: نريد أن نسمع منك.
إن إيجاد هذا الشعور بالأمان النفسي حول الإبلاغ عن الأخطاء أمر ضروري، لكنه ليس العنصر الوحيد للاستجابة الذكية للفشل.
الشيء الآخر هو البيانات التي تساعد على التمييز بين المساعدة والأذى.
في تاريخ الطب، كانت مثل هذه البيانات مفقودة عادة. يتعافى أشخاص كثيرون من أمراضهم حتى مع عدم كفاءة الرعاية، بينما يموت آخرون على الرغم من تلقيهم أفضل علاج. وبما أن كل حالة تختلف عن الأخرى، فإن الطريقة الوحيدة المؤكدة لتحديد مدى فاعلية العلاج هي إجراء تجربة كبيرة وضابطة بشكل مناسب. هذه الفكرة بسيطة جدا لدرجة أنه كان من الممكن أن تستخدمها حضارة ما قبل التاريخ، لكنها لم تنطلق إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وكما يشرح دروين بورش في كتابه Taking the Medicine، فقد ظل العلماء والأطباء يتلمسون الطريق لقرون دون أن يستوعبوا ذلك تماما.
قبل ألف عام، أجرى علماء صينيون تجربة ضابطة للجينسنج، على عداءين يركض كل منهما مسافة ميل: "الشخص الذي لم يكن يأخذ الجينسنج أصيب بضيق شديد في التنفس، بينما الذي أخذ الجينسنج كان يتنفس بانتظام وسلاسة". ربما سيكونون قد تعلموا شيئا لو أجروا التجربة على 200 عداء. من خلال مقارنة ثنائية، التجربة كانت عديمة الفائدة.
أجرى العالم أبو بكر الرازي في بغداد تجربة سريرية في وقت يسبق حتى تجربة الصينيون، في القرن العاشر، لكنه نجح فقط في إقناع نفسه بأن إراقة الدماء تعالج التهاب السحايا. أحد التفسيرات المعقولة لخطأه هو أنه لم يحدد المرضى عشوائيا في مجموعة العلاج والضبط، لكنه اختار الذين شعر أنه من المرجح أن يستفيدوا.
في النهاية، أصبحت فكرة التجارب الضابطة العشوائية بشكل صحيح رسمية في أواخر 1923، ولم تحدث أولى التجارب السريرية من هذا القبيل حتى الأربعينيات.
نتيجة لذلك، ظل الأطباء يرتكبون أخطاء تلو الأخرى عدة قرون، دون أن يملكوا الأدوات التحليلية المتاحة للتعلم من هذه الأخطاء. منذ ما يقارب ألفي عام، أعلن الطبيب جالينوس أنه توصل إلى علاج شفى الجميع "في وقت قصير، باستثناء الذين لم يساعدهم العلاج، الذين ماتوا جميعا (...) لم يفشل إلا في الحالات المستعصية". يا له من أمر مضحك. كم عدد القرارات في مجال الأعمال أو السياسة اليوم التي يتم تبريرها على الأساس نفسه؟ إن الثقافة التي نتعلم فيها من الفشل تتطلب جوا يستطيع الناس فيه أن يتحدثوا صراحة، وإطارا تحليليا قادرا على التمييز بين ما ينجح وما يفشل.
تنطبق مبادئ مماثلة على الأفراد. نحن بحاجة إلى أن نبقي عقولنا منفتحة تجاه احتمالات الأخطاء التي نرتكبها، وأن نسعى بفاعلية للحصول على ردود فعل لنحسن أنفسنا، وقياس التقدم والأداء حيثما كان ذلك ممكنا. يجب ألا نخاف من الاعتراف بالأخطاء وأن نلتزم بإصلاح أنفسنا في المستقبل.

الأكثر قراءة