رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


دلالات هبوط عرض النقود

ليس بالأمر المستغرب أن يتراجع عرض النقود في الولايات المتحدة لأول مرة منذ أكثر من 70 عاما، وذلك عند النظر إلى الانخفاض في مستوى عرض النقود ن2 على أساس سنوي، الذي كان قد ارتفع بسبب تضخم ميزانية مجلس الاحتياطي الفيدرالي في الأعوام القليلة الماضية، الذي قرر لاحقا السيطرة على ذلك عن طريق سياسة التخلص من الأصول إلى جانب رفع معدلات الفائدة الذي بدأ منذ نحو عام ونصف.
هناك علاقة مباشرة بين ارتفاع أصول الفيدرالي ومستوى عرض النقود، لكون الأصول التي يشتريها الفيدرالي من سندات حكومية وسندات رهونات عقارية ينتج عنها ارتفاع في السيولة البنكية، وهذا ما حدث بالفعل، حيث كانت الأصول مسيطرا عليها إلى حد كبير منذ تصاعدها عقب الأزمة المالية 2008 إلى ما قبل جائحة كورونا حين بلغت 3.8 تريليون دولار في سبتمبر 2019، ثم أخذت بالصعود إلى نحو تسعة تريليونات دولار في أبريل 2022.
لذا من الطبيعي أن يرتفع عرض النقود ن2، الذي يعبر في أبسط صوره عن مستوى السيولة البنكية، نتيجة الضخ النقدي الذي يقوم به الفيدرالي حين يشتري تلك الأصول. ومن المعروف أن ارتفاع مستوى السيولة إلى مستويات أعلى من الاحتياجات الاقتصادية الحقيقية من شأنه أن يرفع من مستويات التضخم، بحسب النظرية النقدية الحديثة، وبالتالي فإن انخفاض عرض النقود من المفترض أن يخفض من مستوى التضخم ويخفض من وتيرة نمو الأسعار، لكن ذلك يتحقق في حال ثبات بقية عناصر معادلة النظرية النقدية، أي ثبات حجم الناتج الاقتصادي وثبات سرعة دوران النقود. لذا هنا يتساءل البعض عما إذا كان انخفاض عرض النقود الحاصل حاليا سيؤدي إلى انخفاض التضخم في الفترات المقبلة نتيجة ارتفع معدلات الفائدة، وهو السلاح الذي يسعى الفيدرالي إلى تحقيقه من خلال سياساته النقدية الموجهة لمكافحة التضخم.
منذ قمة أبريل 2022 حين بلغ عرض النقود 22.1 تريليون دولار، بدأ عرض النقود الانخفاض إلى أن وصل في مايو هذا العام إلى 20.7 تريليون دولار، ولا يزال الآن قريبا من هذا المستوى، فهو بالفعل يتناقص لكنه لا يزال بعيدا عن مستويات 15 تريليون دولار ما قبل الجائحة. ما لفت الأنظار إلى مسألة عرض النقود هو أنه بدأ في 2023 يسجل انخفاضات حقيقية على أساس سنوي منذ 1949، ولكن يجب التنبيه أن العلاقة بين مستوى عرض النقود والنشاط الاقتصادي ومعدلات الفائدة ليست علاقة بديهية ولا قاطعة ولا يمكن الاعتماد عليها وذلك لعدة أسباب، منها أن هناك تعديلات لتعريف عرض النقود من حيث الأدوات المشمولة في هذا المؤشر، وهناك تطورات عديدة في أنماط الاستخدام والتعامل مع البنوك بسبب المدفوعات الرقمية واستخدام بطاقات الائتمان وسهولة الدخول والخروج من أسواق النقد وحسابات الودائع والادخار، ما جعل الاعتماد على قراءة بيانات عرض النقود عرضة للتفسيرات المتناقضة، لذا يرى كثيرون أن العلاقة بين عرض النقود والاقتصاد لم تعد مفيدة في هذا الجانب منذ عشرات الأعوام.
النقطة الرئيسة التي يمكن الخروج بها عند النظر إلى عرض النقود هي أن هناك علاقة بين تزايد السيولة وارتفاع التضخم، لكن العلاقة قد تأخذ وقتا طويلا لتتحقق، كما حدث في الفترة عقب الأزمة المالية 2008 حيث استمرت السيولة في الارتفاع دون حدوث أي تأثير يذكر في التضخم، حيث إن ذلك يعتمد على جاهزية الاقتصاد لاستهلاك تلك السيولة المتزايدة، من ناحية أخرى ما إذا كانت السيولة بالفعل تتوجه إلى عصب الاقتصاد، حيث كانت معظم السيولة في تلك الأعوام قابعة في الاحتياطيات البنكية لدى الفيدرالي ولم يتم صرفها في مناحي الاقتصاد المختلفة.
وبالمثل نستطيع القول إن تراجع مستويات السيولة هذه المرة، كما نراها في ن2، من المفترض أن يؤدي إلى ارتفاع معدلات الفائدة وانخفاض التضخم، لكن مع مراعاة أن ذلك قد يأخذ وقتا طويلا، علاوة على مخاطرة حدوث العكس من ذلك، لأن التضخم يرتفع في حال حاجة الاقتصاد إلى سيولة شحيحة لا يجدها، فترتفع معدلات الفائدة وترتفع تكاليف الإنتاج، لذا فإن هناك متغيرات حساسة تؤثر في ارتفاع الأسعار من عدمه، بحسب حجم النشاط الاقتصادي ومستوى السيولة وسرعة دوران النقود في الاقتصاد، إضافة إلى تأثير الاقتراض النهم من قبل الحكومة الأمريكية وتأثير ذلك في وفرة السيولة ومستويات معدلات الفائدة.
الاقتصاد في المملكة العربية السعودية يختلف عنه في الولايات المتحدة، فلم يحدث تسارع في حجم أصول البنك المركزي السعودي كما حدث في أمريكا، فلا يزال عرض النقود ن2 يحقق نسب ارتفاع طبيعية منذ أعوام، حيث نجده مرتفعا في الربع الأول من 2023 بنسبة 3.6 في المائة، ومرتفعا 2.5 في المائة في الربع الثاني، وهو حاليا عند مستويات 2.3 تريليون ريال. ومع ذلك هناك تغيرات على مستوى مكونات عرض النقود، حيث حدث بالفعل تراجع في نمو الودائع تحت الطلب مقابل ارتفاعات في الودائع الزمنية، وذلك بسبب ارتفاع عوائد الأصول الثابتة كالودائع والصكوك والسندات في الفترة الماضية: على سبيل المثال تراجعت الودائع تحت الطلب في الربع الرابع من 2022 بنسبة 5 في المائة، وفي الوقت نفسه ارتفعت الودائع الزمنية والادخارية بنسبة 21 في المائة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي