روايات اقتصادية تبنى على أرقام غامضة
هل تتذكر دورتي الركود المتتاليتين اللتين حدثتا في 2012؟ إنها حادثة نادرة. فبعد عامين من الصعود البطيء من أدنى مستويات الركود في 2008-2009، أعلن مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني أن اقتصاد المملكة المتحدة قد انكمش 0.2 في المائة في الربع الأخير من 2011، والشيء نفسه مرة أخرى في الأشهر الثلاثة الأولى من 2012. لكن بعد ذلك غير رأيه.
بحلول منتصف 2013، ألقى مكتب الإحصاءات الوطنية نظرة أخرى على البيانات وقرر أن الناتج كان ثابتا خلال الربع الأول من 2012: لقد تراجع الركود. واستمرت التعديلات حتى اليوم، فإن أفضل تقدير لمكتب الإحصاءات الوطنية هو أن الاقتصاد البريطاني نما 0.8 في المائة في الربع الأول من 2012 - وهي زيادة بنقطة مئوية كاملة في المجمل.
إذا بدا الأمر وكأنني أنتقدهم، فينبغي ألا يبدو الأمر كذلك. يعد قياس الناتج المحلي الإجمالي أمرا معقدا للغاية. حيث حول العالم، تسعى مكاتب الإحصاءات الوطنية جاهدة للتوصل إلى المجاميع الصحيحة في المرة الأولى.
البعض يكافح أكثر من البعض الآخر. عندما أعلنت أيرلندا لأول مرة عن تقديراتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من 2015، بلغت نسبة النمو 1.4 في المائة. بعد عام، ومع بعض التشوهات الفريدة حقا بسبب موقعها كمقر رئيس لكثير من شركات التكنولوجيا والأدوية الأمريكية الكبرى، تم تعديل هذا الرقم صعودا إلى نسبة مذهلة بلغت 21.4 في المائة.
في المتوسط، بعد خمسة أعوام من نشر تقدير نمو الناتج المحلي الإجمالي الأيرلندي ربع السنوي لأول مرة، كان التعديل الأخير لهذا الرقم ينقص نقطتين مئويتين كاملتين عن القيمة الأصلية. وما يعادل هذا في المملكة المتحدة أقل عشر مرات تقريبا عند 0.25 نقطة مئوية، ما يجعل التقديرات الأولية لمكتب الإحصاءات الوطنية من بين التقديرات الأكثر دقة في العالم المتقدم، حيث تتقدم بفارق ضئيل على الولايات المتحدة عند 0.26 ومتقدمة بفارق كبير على دول مثل اليابان (0.46) والنرويج (0.56).
لكن ليس حجم التعديلات هو المهم فحسب، بل الاتجاه. فمن بين 24 بلدا متقدما تقدم تقارير منتظمة عن تعديلات الناتج المحلي الإجمالي ربع السنوية إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن التقديرات الأولية للمملكة المتحدة هي الأكثر تشاؤما. وذلك لأنه عادة ما تنتهي أرقام النمو الفصلية في بريطانيا بارتفاع 0.15 نقطة مئوية عما كان يعتقد في البداية. أما الألمان فقد ارتفعوا 0.07 في المتوسط، والفرنسيون 0.04، بينما الأمريكيون، المتفائلون دائما، ينتهي بهم الأمر عادة إلى تعديل تقديراتهم بانخفاض 0.11 نقطة مئوية.
بعبارة أخرى، في المرة المقبلة التي تسمع فيها مجموعة من أرقام النمو الفصلية، لن يكون من غير المعقول أن تضيف ذهنيا 0.15 إلى الناتج في المملكة المتحدة وتطرح 0.11 من نظيره في الولايات المتحدة.
قد يبدو كل هذا وكأنه تفصيل بغيض، لكنه مهم لأن الناس يبنون روايات قوية بناء على هذه البيانات الواهية بشكل ملحوظ. وكانت بريطانيا هي الاقتصاد الوحيد في مجموعة السبع الذي لم ينتعش بعد مستويات ما قبل كوفيد حتى لم تعد كذلك. وعلى ما يبدو، فإن أيرلندا تشهد ازدهارا، إلا أن نصيب الفرد من الاستهلاك الفردي الفعلي - وهو مقياس أفضل بكثير لمستويات المعيشة من الناتج المحلي الإجمالي - انخفض بشكل مطرد من أعلى بقليل من المتوسط في أوروبا الغربية في 2007 إلى 10 في المائة أقل من العام الماضي.
لا تقتصر هذه الظاهرة على البيانات الاقتصادية. فقبل عامين، لجأ التقدميون الذين ينتقدون تعامل الحكومة مع الجائحة إلى تسمية المملكة المتحدة "بجزيرة الطاعون"، مستشهدين بمعدلات الوفيات الناجمة عن كوفيد في بريطانيا، التي كانت من بين أعلى المعدلات في العالم المتقدم. لكن مع فائدة الإدراك المتأخر، نعلم أن بريطانيا كانت ببساطة أفضل في إحصاء وفياتها من معظم الدول.
وبمجرد أن انقشع الغبار، كانت المملكة المتحدة في منتصف المجموعة من حيث الوفيات الناجمة عن الجائحة. لم يكن الأمر ببساطة أن أداء بريطانيا كان سيئا قبل عامين ثم تحسنت الأمور: بل كان أداء بريطانيا دائما أفضل مما تشير إليه البيانات الأولية.
من الأمثلة النادرة على رفض المحللين الحذرين السماح لبيانات واهية بتشكيل السردية هو ما حدث في الولايات المتحدة العام الماضي، عندما قررت لجنة تأريخ دورة الأعمال التابعة للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية ببساطة أنه رغم انكماش الناتج المحلي الإجمالي المقدر لربعين متتاليين، فإن المؤشرات الملموسة أكثر، مثل أرقام الوظائف، تشير إلى أن هذا سيكون مجرد انخفاض عابر. لم يتم ذكر حدوث أي ركود.
بوسعنا جميعا أن نتعلم من النهج الأمريكي. تظل أرقام الناتج المحلي الإجمالي هي الإحصائية المرجعية لتتبع التقدم داخل الدول وفيما بينها، لكن عندما تشير هذه الأرقام المعروفة بالغموض في اتجاه واحد بينما تشير الإحصاءات الأكثر موثوقية أو الملموسة إلى اتجاه آخر، فربما يتعين علينا أن نتوقف قبل القفز إلى الاستنتاجات.