السندات .. لا إجابة حاسمة!
هناك عوامل تؤثر في أداء أسواق السندات، من بينها قرارات البنوك المركزية بشأن أسعار الفائدة، فإذا ارتفعت أسعارها الرئيسة، فقد تنخفض قيمة السندات الحالية، ما يؤدي إلى خسارة أصحابها، وترتفع أسعارها كلما زادت توقعات التضخم، كما أن مواسم التضخم تجعل ملاك السندات في حيرة من أمرهم، فالاحتفاظ بها يعني أنه لا فائدة من الاستثمار، إذ العوائد لن تكون قادرة حتى على تعويض رأس المال.
توقعات معدلات التضخم ترتفع وتنخفض بحسب تقلبات الناتج المحلي الإجمالي والوظائف، وهذا له ارتباط بالعامل الجيوسياسي، فإذا أصدرت وكالة التصنيف الائتماني تصنيفا مقلقا مع كل هذا، فإن سوق السندات في حال يرثى لها. ففي الولايات المتحدة وصلت عوائد سندات الخزانة لأجل عشرة أعوام إلى أعلى مستوياتها منذ 16 عاما، ولا يزال التضخم عالقا بالاقتصاد الأمريكي المتقلب، وسقف الدين في ارتفاع، ووكالات التصنيف تضع رموزها على غير ما تشتهيه سفن مستثمري السندات.
فهل بقي من أمل لمن يحتفظ بالسندات الأمريكية حتى اليوم؟ هناك وجهتا نظر في هذا الشأن، فمن يقول إن التغيرات في أسعار الفائدة كانت مدفوعة بالتضخم الذي ارتبط أساسا بالعرض لا بالطلب، وهذا يجعل المسألة مؤقتة، وهذه النظرة المتفائلة - إذا جاز التعبير - ترى أن التضخم كان مرده أساسا إلى مشكلات عميقة في سلاسل الإمداد والخروج غير المتوازن من جائحة كورونا، ما عطل عديدا من المصانع في أنحاء مختلفة من العالم، كما أن كثيرا جدا من الحاويات كانت موجودة ومكدسة في موانئ ليست على خطوط النقل العالمية، واستعادتها مكلفة وإعادة إنتاجها مكلفة، مع صعوبات جمة في عودة العمال الأقل أجرا، كل ذلك جاء في وقت انفتاح سريع على الأسواق في الدول المتقدمة مع وجود قوة شرائية كانت محبوسة أثناء الأزمة، لذا فإن ارتفاع الأسعار مؤقتا بحيث يتراجع التضخم إلى المستهدفات مع عودة الأمور حول العالم إلى نصابها، وإن أسعار الفائدة عند ذروتها، فهذا السيناريو يرى أنه متى انقضت موجة التضخم الجارية، فمن المرجح أن ينعكس مسار أسعار الفائدة لتعود إلى مستوياتها الطبيعية، ويفسر تقرير صندوق الدولي، الذي صدر في أبريل، أن سعر الفائدة الطبيعي، هو سعر الفائدة الحقيقي الذي لا ينشط الاقتصاد ولا يتسبب في انكماشه، وهنا يكمن التحدي.
أما وجهة النظر الثانية، فترتكز حول نظرية مفادها أن التضخم ليس مؤقتا، بل من الصعب تحقيق أي مستهدفات قريبة، فقد انخفض الرقم الأساسي في الولايات المتحدة في يوليو إلى 4.7 في المائة، ومع ذلك لم تعد الأمور إلى طبيعتها، ذلك أن نمو الأجور في الولايات المتحدة لا يزال مزدهرا وسيكون عائقا كبيرا للعودة إلى مستويات التضخم عند 2 في المائة، وقد أكد تقرير صندوق النقد الدولي سيناريو انخفاض التضخم الكلي العالمي من 8.7 في المائة في 2022 إلى 7 في المائة في 2023 على خلفية انخفاض أسعار السلع الأولية، ولا يرجح عودة التضخم إلى مستواه المستهدف قبل 2025 في معظم الحالات، فالصورة على هذا الأساس هي تقلبات اقتصادية مؤقتة بين انخفاض مؤقت وارتفاع مؤقت، فلا شيء يدعو إلى التفاؤل، فالاستثمار في السندات غير مأمون الجانب، فلا أحد مقتنع بخفض أسعار الفائدة في المدى المنظور، ما لم يحدث تراجع حاد في أسعار الاستهلاك، والنمو حاد لدرجة تجعل أسعار الأسهم تنهار، عندها سيعود الجميع إلى المطالبة بتخفيض أسعار الفائدة وستعود أعوام ازدهار أسواق السندات.
لكن هذا السيناريو غير مرغوب ولا مستحب عموما، فهو يعني أن الاقتصادات المتقدمة قد تورطت في ركود مزمن، قبل الوصول إلى حالة انهيار الأسعار، كما أن المطالبات برفع الأجور لم تزل قائمة، وهذا يعني بقاء التضخم مرتفعا، ومزيدا من الديون، التي يطلب المستثمرون أسعار فائدة هي أعلى من أسعارها الطبيعية حتما. ففي تقرير صندوق النقد الدولي الأخير حدد سعر الفائدة الطبيعي بأنه سعر الفائدة الحقيقي، وهو سعر استرشادي مهم للسياسة النقدية وسياسة المالية العامة، يقاس على أساسه موقف السياسة النقدية لمدى استدامة القدرة على تحمل الدين العام.
المشكلة هنا أن تحديد سعر الفائدة الذي له هذه الصفات الحميدة ليس سهلا كما يبدو، فمثلا في أزمة التضخم في السبعينيات بلغ سعر الفائدة الحقيقي 5 في المائة، ومع ذلك لم يكن كافيا للسيطرة على التضخم، فهو لم يزل منخفضا، ومع الأزمة المالية وصل سعر الفائدة إلى الصفر، ومع ذلك لم يكن كافيا لأنه كان مرتفعا، وهذا - وفقا لتقرير صندوق النقد - يثير تساؤلا واضحا، كيف يمكن لسعر الفائدة الحقيقي في البلد ذاته أن يكون منخفضا أكثر من اللازم وهو عند مستويات 5 في المائة، ثم يصبح مرتفعا أكثر من اللازم عند نسبة صفر؟ هذا هو ما يجعل من الصعب فهم أي السيناريوهات هو الصحيح، وهل الأمور تدعو إلى التفاؤل أم التشاؤم، وهل أسواق السندات في مسار صحيح أم لا؟
في الواقع لا أحد لديه إجابة حاسمة!.